Al-Quds Al-Arabi

إعادة تعريف…

- ٭ كاتبة أردنية ووزيرة سابقة

كنا فــي نهاية المرحلــة الثانوية حين كانــت الآمالُ بلا حدود والأحــامُ وردية، والحيــاةُ خارج غرفــةِ الصف المزدحمــة تبدو غايةً في الرحابة والكــرم... كانت عيوننا على اللوح، نتابعُ المعلمة وهي ترســمُ لنا الجهازَ الهضمي لسمكة! فُتحَ بابُ الصف، لتدخلَ علينا المديرةُ ترافقها امرأةٌ ترتدي ثياباً بيضاء، عرفنا من هيئتها أنها ممرضة، ونظراً لتقدمها في العمر، ولضخامتها النســبية، استنتجنا أنها رئيسةُ الممرضات أو شيء من هذا القبيل.

جرى حوارٌ هامشــي بــن المديرة والمعلمــة، ثم وقفت الزائرةُ أمامنا، وألقت كلمةً طويلــة بنبرةٍ خطابيةٍ عالية، وصــوتٍ جهــوري متضمنةً عبــاراتٍ رنانةً عــن المرحلةِ المصيرية التي تنتظرنــا، وجملا بليغة تمحورت حول أنها مهنةٍ شريفة، وقالت أشــياءَ عن ملائكة الرحمة، وتابعت خطابَهــا بالصوتِ العالــي الرتيب إياه حتــى أن زميلتي همت، وســطَ شــرودها، بالتصفيق غير مرة. ثم تنفسنا الصعداء لمــا ختمت الموضــوع ببيتِ شــعرٍعتيد، لتبادرَ مديرتُنا بالســؤال: «والآن يا بنات، وبعد ما ســمعناه من ضيفتِنا الكريمة عن مهنة التمريض، من منكن قررت التفكير في امتهان التمريض بعد تخرجكن القريب ؟». وسادَ المكانَ صمتٌ مربك للحظات، فاستدركت الموقفَ بحكمةٍ لتضيف: «ســأغيرُ صيغةَ الســؤال، ما رأيكن في مهنة التمريض ؟». فعادَ الصمــتُ الثقيلُ ليخيمَ على المــكان، هذا كله، ونحن نتحاشى النظرَ إلى ملاكِ الرحمة الواقفِ أمامنا، إذ لم يكن ليخطرَ لأي منا التوجهُ لمثل تلك المهنة، فالطالبةُ الجالسةُ في المقعد خلفي كانت ترددُ في كل مناسبة أنها تنوي دراسة «هندســة الذرة»، والأخرى المجاورة لهــا كانت قد عقدت النيةَ والعزمَ على دراســة «طب الأعصــاب»، أما الأخيرة بقربي، فقد كانــت تتعمدُ الجلوسَ قــرب النافذة، وكانت تطيلُ النظرَ نحو الســماء، فلم أستبعد أنها كانت تميلُ إلى دراســة «علوم الفضاء»، ألم أقل أن الحياةَ كانت تبدو لنا سخية، والآمالُ كانت بلا حدود؟

طالَ الصمتُ العجيب، حتى يئســت المديرةُ من تفاعلنا، فبــدأت تختــارُ الفتيات بطريقةٍ عشــوائية وتســأل كلاً منهــن عن رأيها في مهنة التمريــض، لتأتي الإجاباتُ على اســتحياء بأصواتٍ متــرددة، وبجملٍ قصيــرةٍ مختزلة مثل: «هي مهنةٌ شــريفة!» لتتبعَها أخــرى فتُضيف: «هي مهنــةٌ كلها عطاء، ومن أشــرف المهن» وتوالــت الإجاباتُ بصياغاتٍ ركيكةٍ جامعُها المشــترك عبارة «مهنة شريفة.» هنا، ابتســمت المديرة، وكانت المرةَ الأولى التي نرى فيها ابتســامتَها، لتقول: «عزيزاتي، إن مجردَ التركيز على أنها مهنةٌ شريفة، يجعلَ المهنةَ ذاتَها موضعَ شك وتساؤل، فأي مهنةٍ تختارينها بعد تخرجكِ أيتها الطالبة، أنتِ نفسُكِ التي تجعلين منها مهنةً شريفة، أو غيرَ شريفة.»!

وبدت تلك الجملةُ المؤثرة الحاســمة مفصليةً في وعينا آنذاك، ومــا زالت حتى اليــوم بعد أن كنا نــرددُ مفاهيمَ مجتمعيةً ســاذجة وعموميةً وقاســية، بدون تفكير، لتمر عقــودٌ عديدة وطويلة على ذلك اليــوم حتى وقعَ بين يدي مؤخــراً كتابٌ مدرســي لأحــدِ الأطفال يتحــدثُ فيه عن التمريــض ليبدأ الموضوعَ بعبارة: «مهنــةُ التمريضِ مهنةٌ شــريفة» لأجزمَ أن الصغيرَ ابنَ السبع ســنوات لا يُدركُ أي شــيءٍ عما يقول، وليس لدى التربوي الفذ الذي كتبَ الموضوع أي علاقةٍ بالتربية.

السؤال الموجع: إلى متى سنظل أسرى القوالب الفكرية الجاهــزة؟ وهل أدركَ معظــمُ البالغين العقــاء منا معنى الشرف حتى يُعلموه لأجيالنا الجديدة؟ وهل عملَ واضعو المناهج المدرســية بالمهنية والعمق والنضج المطلوب على توســعة المفهوم، حتى يصــلَ إلى ذهن الصغــار مرتبطاً بالقيــم الأخلاقية والإنســان­ية العامة التــي تُجمعُ عليها المجتمعــا­ت الحضارية الدينية والمدنية إن شــئتم؟ في أي خانةٍ نضعُ فئةَ الفاســدين والُمختلســن وخونةِ الأوطان وبائعي الذمم يا تُرى؟ أم أن قيمة الشــرف ما زالت أنثوية الطابــع وقابعة هناك في العتمة إياهــا، وفي عتمةِ الجهلِ والتغابي والجمودِ، أما حــانَ الوقتُ لإعادة النظر وإعادة تعريف «الشرف» لمواجهةِ تشوهاتنا الأخلاقية والسلوكية بشجاعة وجرأةٍ ورجولةٍ حقيقية؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom