Al-Quds Al-Arabi

الشخصيات العظيمة وقراراتها الوخيمة!

- ٭ كاتب تونسي

■ بمناسبة الاســتعدا­دات لإحياء الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى غدا، في الســاعة 11 من اليوم 11 من الشــهر 11، بدأ الرئيس الفرنســي مانويل ماكرون منذ الاثنين الماضي رحلة استغرقت أسبوعا كاملا في شمال فرنسا وشــرقها، مقتفيا بذلك أثر جنود الجيش الفرنســي )الذين لم يكونوا من الفرنسيين فحسب، بل كان ضمنهم مئات الآلاف من أبناء الجزائر وتونس والمغرب والسنغال ومالي وبقية بلدان افريقيا الغربية( في ساحات القتال في لا موزيل، وفردان، ولا مارن، ولا سوم وسواها من مناطق «الجبهة الغربية». ورغم أن المنتقدين قالوا إن ماكرون إنما يسعى بذلك إلى ترميم شعبيته التي انهارت فــي الفترة الأخيرة، فالحــق أن التخطيط لهذه الرحلة بدأ منذ أكثر من عام. كما أن لجنة الإشــراف على إحياء المئوية قد تشكلت منذ عام 2012.

وقد أثار ماكرون أثناء هــذه الرحلة جدلا كبيرا عندما أعلن أن من المشــروع أن يتم تكريم جميع قادة الجيش الفرنسي في الحرب العالميــة الأولى، بمن فيهم المارشــال بيتان. ومعروف أن بيتان هو الذي كان على رأس حكومة فيشــي أثناء الحرب العالمية الثانية وأنه آثر الاستســام والتعــاون مع الاحتلال النازي، حيــث كانت حكومتــه تعمل تحت إمــرة الألمان، بل كانت أكثر منهم تحمســا لاعتقال المواطنين الفرنسيين اليهود وإرسالهم إلى معســكرات الإبادة النازية. ولكن الحقيقة أيضا هي أن المارشال بيتان قد كان، قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة، بطلا من أعظم أبطال فرنســا، حيث يعود له الفضل في تحقيق النصر العسكري المؤزر على الألمان في معركة فردان الشهيرة.

أما أهميــة هذه الحادثة فهــي أنها تذكّر بحقيقة سياســية وتاريخية كثيرا ما يطويها النسيان، وهي أن القائد أو الزعيم يمكن أن يكون نافذ البصيرة حســن التدبير أحيانا، وســقيم الرأي عديم الحيلة أحيانا أخرى. وهذا ما قصده ماكرون عندما قال إنه لا يريد التعتيم علــى أي صفحة من صفحات التاريخ: فقد كان المارشــال بيتان «جنديا عظيما» فــي الحرب العالمية الأولى، ولكنــه اتخذ «قــرارات وخيمة» في الحــرب العالمية الثانية.

ولهذا فلا معنى، في قراءة التاريخ، لأحادية النظر وإطلاقية الأحكام. فقد كان معاوية بن أبي ســفيان، على ســبيل المثال، ماكــرا خدّاعــا لا همّ لــه إلا حب الملــك والثأر لبنــي أمية من بني هاشــم، ولكنه كان داهية لا نظير له في ســوس الرجال وسياســتهم، وبفضــل ذلك أســس الدولة العربيــة الكبرى الوحيدة في التاريخ. وكان الحجاج ظلوما غشوما ولكنه كان إداريا بارعا، مع فراسة وفصاحة. أما في التاريخ المعاصر، فقد كان صدام حســن مفرطا في الفتك الداخلي، مغامرا سبّاقا إلى العــدوان الخارجي، ولكنه كان بانــي نهضة علمية وصناعية ســرعان ما أجهضتها حروبه العبثية. كما أن حسن نصر الله بلغ، طيلة عقد أو أكثر، من الشــعبية عربيا ما لم يبلغه إلا عبد الناصر، وذلك بفضل ثباته على مبــدأ مقاومة الغزاة وإدراكه لحقيقة الخطر الإسرائيلي على الوجود العربي بأسره. ولكن الثورة الشــعبية في ســوريا كشــفت أنه طوع الإرادة ورهن الإشــارة الإيرانية، كما أثبتت أن الانتماء الطائفي أو المذهبي عنده أسبق وأهم من أي انتماء آخر سواء كان دينيا أم قوميا.

وهــذا عبد العزيــز بوتفليقة كان وزيــر خارجية لامعا في الســتينيا­ت والســبعين­يات أيام كانت الجزائر تفخر بأنشط دبلوماســي­ة في كامل العالم الثالث. ولكن أنظر ما آل إليه أمره “الرئاســي” اليوم. وكذلك الحبيب بورقيبة كان قائد الحركة الوطنية ضد الاســتعما­ر وباني دولة الاستقلال ورائد التعليم العصــري والتحديث الاجتماعــ­ي. كان زعيما فــذا. ذلك هو بورقيبة الأول، أما الذي ســاد المشــهد من أوائل السبعينيات حتى منتصف الثمانينيا­ت، فهو بورقيبة الثاني: مجرد «رئيس مدى الحياة» يشــاطر بقيــة الملوك العرب عــادة العض على جثة الســلطة بالنواجذ. هذا رغم أنه هــو القائل، في خطاب إلغاء الملكية يوم 25 تموز/يوليــو 1957، إن الحكم الجمهوري هو الأصلح والأفضل لأنه محدود بفترات دســتورية معدودة، وإن من أســباب انهيــار تجربة الدولة الإســامية الأولى في فترة الخلفاء الراشــدين، رغم استثنائيته­ا، هو أن الحكم كان مكشــوفا على شــتى الاحتمالات لأنه كان مفتوحا لا حد له إلا بالوفاة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom