Al-Quds Al-Arabi

في رثاء إعلامي بارز لم ينحنِ ولم ينكسر

- ٭ كاتب من مصر

■ أقيــم أول أمــس )الخميــس ‪2018 11/ 08/‬ ( مجلس العــزاء الخاص بالكاتب والإعلامــ­ي الكبير الراحل حمدي قنديل في مســجد عمر مكرم؛ الكائن في ميدان التحرير في القاهرة، الذي انطلقت منه شــرارة ثورة 25 كانون الثاني/ ينايــر 2011 واحتضنها لمدة ثمانية عشــر يوما حتى تخلى مبارك عن الحكــم، وكانت قد توجهت إليــه واجتمعت فيه وتحركت منه جماهيــر غفيرة؛ في ســعيها للتغيير، وبدء حياة جديدة؛ مبرأة من «الفســاد والاســتبد­اد والتبعية»؛ المنظومة الشــيطاني­ة التــي أبقت على حكــم عائلة مبارك لثلاثين عاما متصلة، ثم اتجهت لتوريث الابن الأصغر ليحل محل والده رئيسا لمصر، وتحول «الميدان» لرمز بالغ الدلالة فــي التاريخ المصري والعربي الحديث، فقد صار بالنســبة لعواصــم المحافظات والمدن الكبرى مثــا ونموذجا. وعلى نمطه اســتقبلت الميادين الحشــود والتجمعات الشــعبية الثائرة والجماهير الغاضبــة، وتلخصت آمالها وتطلعاتها في شــعارات بســيطة ومعبرة؛ «الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنســاني­ة»؛ شــعارات لم تنفذ، وما زالت كامنة تنتظر جولات مقبلة

وكما لـ«الميــدان» قيمــة تاريخية كبرى اســتمدها من الحراك الشــعبي الواســع، الذي لم يحدث من قبل؛ لا بهذا الحجــم ولا بذلك العــدد؛ حمــل الراحل الكبير شــيئا من هــذه الصفات، التي أهلته لاحتلال مكانــة متميزة في عالم الصحافة والإعلام والسياســة، وبرز فــي مجالات الإعلام المكتوب والمســموع والمرئي، وأصبح جديــرا بالتناول من قِبَل الكتــاب والمفكرين؛ يعيدون تقديمه للأجيال الشــابة والمهتمين بما خَلَّفه من تــراث، وأثر بالغ وبصمات واضحة على وجدان الــرأي العام الوطني المصري والقومي العربي رغم المصاعب والتحديات التي واجهته.

بدأ حمدي قنديل سنواته الجامعية الثلاث الأولى طالبا في كلية الطب جامعة القاهرة، واستهوته الصحافة وجذبته إليها، وبدأ مسيرته معها من مجلة «آخر ساعة»، ومع ولادة «التلفزيــو­ن العربي» مــن القاهرة؛ في ســتينيات القرن الماضي أطل على المشــاهدي­ن ببرنامج «أقــوال الصحف»، وعلى يديه تحول ذلك البرنامج الرتيب والتقليدي إلى كائن حي يشــد الانتباه ويجذب إليه الناظرين، وكان مقياســه لضبطه بســيطا وهاما، أساسه الاعتماد على قيمة ما يقدمه البرنامج، وضــرورة أن يكون معبرا عن الُمشَــاهِد؛ لا وفقا لمصدر المادة والوزن الرســمي لصاحبها، وتســبب ذلك في وقف برنامج «أقوال الصحف» ـ حســب ما ورد في مذكراته المعنونة بـ«عشــت مرتين» ـ وكان السبب هو الإشارة لخبر عــن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فــى نهاية البرنامج. ولم يترك قنديل الواقعة تمر، وذهب بنفســه لمكتب الرئيس في «منشــية البكري» مستفســرا من سامي شرف المسؤول عن سكرتارية الرئاسة؛ «عما إذا كان يضيره )الرئيس( أن يأتي خبر بشــأنه في نهاية البرنامج؟»، وفوجئ به يبلغه بقرار عبد الناصر بأن يحمل أوراقــه وصحفه ويذهب إلى «الاستوديو» فورا.

ولمع حمــدي قنديل فــي التليفزيون كما لــم يلمع مذيع من قبــل. خاصــة أن «التليفزيــ­ون العربي» مــن القاهرة ولــد عملاقا. ومــن الطبيعي أن يوصــف الإعلامي الراحل بالمخضــرم؛ عاصر أزمنة وعهــودا وسياســات وتقلبات، ومراحل عصيبة وعاصفة من التاريخين المصري والعربي. وكان ذلك الإعلامي المخضرم ســبيكة خاصة لمعدن لا يصدأ ولا ينحني ولا ينكســر، ومن طراز فريــد؛ بين الصحافيين والكتاب والإعلاميي­ن. واكتســب ذلك من شدة ثقته بنفسه وحبه لمهنتــه وعمله، وإقباله على النــاس وانحيازه لهم، ورأيه المســتقل والتزامــه الوطني والقومــي والأخلاقي؛ الواعي والنادر. وكان فارسا عاش بيننا وكأنه أتى إلينا من عصور خلت، وقد خَبِر فروسيته وشــعر بها كل من اقترب منه والتصق به، وقد طَبَعت الفروســية أعماله ومبادراته ومشاركاته، وعززتها سعة الاطلاع ووفرة المعارف بالثقافة والآداب والفنون بمعناها الشامل والواسع.

عاش وســط بيئة أشــبه ببحــر متلاطم بلا شُــطآن، ورغم وعورة الســباحة آثر مواجهة المــوج العاتي بصدقه وصراحته وجرأته وكفاءته، التي لا يُشَق لها غبار. وزادته التحديات صلابة، وانطبــق عليه وصف الكاتب الصحافي عبد الله الســناوي وهــو يرثيه في صحيفة «الشــروق» المصريــة: «تغيرت الأزمان وتبدلت الوجــوه لكنه لم يغير أفكاره ولا تبدلت انحيازاته ودفع ثمنها. وهو عروبي قومي ناصري، أيد بكل وجدانه القضية الفلســطين­ية ضد التغول الصهيوني، ووقف بكل وضوح ضــد حصار ليبيا والعراق قبل احتــال عاصمته بغداد. لم يتنكر لحق عربي ولا صمت فى أي قضية لها صلة بما يشغل أمته.»

وصدق فيه قول أحــد القراء إن حمــدي قنديل إعلامي وصحافي حمــل مبادئــه معه حيثمــا حــط، وانتقل بين الصحف والشاشــات، ومع كل انتقــال تتخلله مواجهات جادة وساخنة، وقد كان ذلك واضحا في مذكراته، حتى لو اختلف المرء مع حمدي قنديل في آرائه ومواقفه لكن لا يملك إلا أن يحترمه لعطائه وتضحياته.

وحين علمت من الصحــف خبر مرض زوجتــه الفنانة الكبيرة والقديرة نجلاء فتحي اتصَلْت به هاتفيا لشد أزره والتخفيف عنه، مع خالص التمنيات لها بالشــفاء العاجل. وكانت علاقتنا قــد بدأت من زمن في لنــدن، واقتربنا أكثر منــذ إرهاصات ثــورة 25 يناير/كانون الثانــي التي بدأت تلوح في الأفق من منتصف عام 2005، ثم مســاندته لحركة «كفاية» ومشاركته في «الجمعية الوطنية للتغيير»، وقربه من «المجلس الوطنــي» وتأييده لـ«حركــة تمرد»، ولمطلب الانتخابات الرئاســية المبكرة؛ ردا على الإعلان الدستوري الصادر في تشــرين الأول/نوفمبــر 2012 لتحصين قرارات رئيــس الدولة في ذلــك الوقت ضد التصحيــح والتعديل والتغيير.

وازداد الاحتقــان مع اكتمــال حلقات العنف المســلح، وتوحيد ميليشــيات جماعات «الإسلام السياسي» والفرق الوهابيــة )الممثلــة فــي اللهو الخفــي(، وجماعــات البلطجة المنظمة من عهــد حبيب العادلي للاعتداء على الثوار واغتيال قادتهم، وزاد الاحتقان لحده الأقصى، وتســاقط الشــهداء، وأولهم الصحافي الشــاب الحسيني أبو ضيف.

وعرَّضَه برنامجه الشــهير «رئيــس التحرير» الذي بدأ البث مع بداية الألفية الثالثة؛ لمتاعب جمة وتدخلت الرقابة إلى حد منع حلقات من البرنامج سُــجلت وأعدت للعرض، وضاق به تليفزيون الدولة فلجأ للفضائيات الخاصة، ونقل برنامجه إليهــا. ولم يعمر طويلا. وبــدا الحصار مضروبا حوله من كل جانب، واســتعان بمنابر إعلامية عربية )غير مصريــة(؛ كالفضائيــ­ة الليبية وفضائية دبــي، وقدم فيها برنامج «قلم رصاص»، الذي ذاع صيته واســتمر لسنوات وتوقف.

شــارك بقدر ما يستطيع فى الحراك الثوري، أيّد واقترب من الكيانات التي انتصرت لـ «ثورة يناير». ولا أنسى دوره في «مؤتمر مصــر الأول» الذي انعقد فــي أيار/مايو 2011. ويبدو أن هنــاك من فوجئ بحجم الحضــور الذين ضاقت بهم قاعــة المؤتمرات الكبرى. وظهرت فــي الأفق محاولات إفشال جلســة الختام، ومَنْع إعلان القرارات والتوصيات. واستشعر المســؤولو­ن عن المؤتمر ذلك فطلبوا من الراحل حمدي قنديل رئاسة الجلسة فلم يمانع. ودوى صوته مجللا في القاعة؛ مدافعا عن ثــورة يناير/كانون الثاني، وأهمية تمكين المؤتمر من إعلان قراراتــه وتوصياته التي ينتظرها الرأي العام فــي الداخل والخارج. ونجــح الراحل الكبير في إدارة الجلســة، وأوصل المؤتمر إلــى بر الأمان وتحقيق النتيجة المرجــوة التي تطلع إليها الأعضاء والمشــارك­ون. رحم الله حمدي قنديل وغفر له وأسكنه فسيح جناته.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom