متلازمة القدس
رغبة ترامب في أن يظهر كزعيم دولي قد تجعله يتصدى لاتفاق السلام بل وتقسيم المدينة
نتائج انتخابات منتصف الولاية في الولايات المتحدة ستؤثر على القدس. ليس فقط على القدس كتعبير مجازي على حكومة إسرائيل، بل على مدينة القدس وعلى إعادتها إلى خطاب سياسي متفجر ومشوق. ما يبدو كأمر لا يجري الحديث فيــه بعد اليوم، يهدد بالعــودة عبر الإدارة الأكثر عطفاً على إســرائيل اليمينيــة. وهذا يحــدث على النحو التالي: دونالد ترامب انتصر، وهو دوماً ينتصر، فقد حافظ على مجلس الشــيوخ ومنــع «موجة زرقــاء» صرفة كانت ستهز مكانته، ولكنه خســر الأغلبية في مجلس النواب. لو كان فاز هناك أيضاً، لأصبح الأقوى الذي لا يشــكك به أحد. ووفقاً للمفهوم الإســرائيلي فإن رئيساً قوياً يمكنه أن يركز على الشؤون الخارجية بسهولة، فيصطدم بإيران، ويضع قدماً في ســوريا، وســيكون أســهل عليه امتصاص انتقاد العالم على إذابة القضية الفلسطينية. وبالمقابل فإن رئيساً جريحاً، يكافح ضد الإطاحة وضد التحقيق، كفيل بأن يكون هشاً وأقل التزاماً للمنطقة، بل وحتى من شأن الديمقراطيين أن يدفعوه نحو خطوات تعطيــه مكانة دولية وتثبت بأنه لاعب سياسي.
في مثل هذه الحالــة، فإن إســرائيل وبنيامين نتنياهو كفيلان بــأن يكونا مطالبين بدفع ثمن كي ينتج هناك اتفاق، أو على الأقل مســيرة مع الفلسطينيين. فضلاً عن ذلك، فإنه بدءاً من الأســبوع القادم ســيركز ترامب على الانتخابات التالية للرئاسة التي ســتجرى بعد سنتين. وسيقاتل ضد الجبهة الداخلية بــكل القوة، مثلمــا كان يمكن أن نرى في الحادثة الشاذة والعنيفة مع مراسل السي.ان.ان في البيت الأبيض. فهو سينحي، وسيقيل، وســيفعل كل شيء حتى لــو كان عقيماً، كي يتملص من إجــراء الإطاحة في مجلس النواب.
ســيرغب ترامب في أن يحقق قائمة وعــوده للجمهور وللعالم. إلى جانب الحرب ضد المهاجرين، معالجة الاقتصاد وشؤون السلاح، التعليم والميزانية. وسيرغب في أن يظهر بأنه زعيــم دولي مع إنجــازات، فقد فــرض عقوبات على إيران، وســيعمل ـ إذا كان يستطيع ـ على خلق مفاوضات بديلة على اتفاق محسن. احتمال ذلك محدود.
لن ترغب إيران في الاستســام لترامب، وهي ستفضل الدخول في نظام التقشف الاقتصادي والسياسي وانتظار ســنتين لاحتمال أن يرحل. فــي حالة الضائقة من شــأنها أن تبادر إلى خطوة عســكرية غير مباشــرة مع إســرائيل في الشــمال بواسطة حزب الله، وميليشــياتها في سوريا والحرس الثوري.
في الفترة القريبة القادمة ســيكون الشــمال حساســاً للغايــة. علــى فــرض أن إيران ســتبدأ معركة سياســية واقتصادية ولو كان ذلك يتطلب زمناً، فإن الســبيل السهل لتحقيق إنجاز سياســي مفاجئ وواضــح ووقاطع هو في مجال التسوية مع الفلسطينيين.
يبدو هذا مدحوض ومنقطع عن الواقع في ضوء السلوك الفظ لترامب تجاه أبو مازن وتبني مواقفنا. ولكن يجب أن نتذكر لمــاذا اتخذ ترامب كل هذه الأعمال: فهو يرى نفســه فنان الصفقــات، وهو يريــد أن يجبر الفلســطينيين على العودة إلى الطاولة وقبول الصفقة.
فضلاً عن ذلك، يرى ترامب نفســه كمن أعطى إســرائيل ونتنياهو، وهو يحتاج الآن لأن يتلقى شيئاً بالمقابل. كانت لهذه عدة تلميحات: فقد تحدث عن أن بيبي مدين له، وقال إنه بعد أن حصلت إســرائيل على السفارة في القدس فإنها ستعطي شــيئاً جميلاً للفلسطينيين أيضاً، بل وحتى تحدث عن عاصمة فلســطينية فــي القدس. فهل سيقســم ترامب القدس؟ مهما كان هــذا غريباً، فإن ترامــب لم يتراجع عن «صفقة القرن». فهو يعمل عليهــا ويريد أن يحققها، وإذا لم يحقق شيئاً فإنه سيبدو هشاشاً ومخادعاً سياسياً.
يرى الرئيس الأمريكي كل الخطــوات الأخيرة نوعاً من السلفة التي تلقتها إســرائيل من المنطقة: اللقاءات العلنية للرئيــس المصري مــع نتنياهــو؛ والزيارة الاســتثنائية والعلنية لرئيس الوزراء إلى ســلطنة عُمان، ودعوة وزير المواصلات إســرائيل كاتس إلى عُمان لعرض الســكك إلى السلام: خطته لربط إسرائيل بسكك قطارات إلى السعودية وإلى العالم العربي. هذه سلفة، وزمن الدفع يجب أن يأتي.
إلى جانب تبني موقف إســرائيل في أنه لا حاجة لإخلاء المستوطنات من أجل السلام، فمن ناحية ترامب فإن تقسيم القــدس أو عرض الجانب الشــرقي منهــا كعاصمة الدولة الفلسطينية المســتقبلية هو مفاجئ ومغر في الوقت نفسه، وعملياً بيع في الوضع القائم.
سياد مقترضة
القدس موحدة زعماً ومقســمة في الواقع. كان يمكن أن نتابع مثــاً الفعل المخيف لســلطات الدين الإســامية في المدينة، التــي رفضت دفن أحد قتلــى الحادثة المروعة على طريق الغور لادعاء أنه تاجر بالأراضــي مع اليهود. إن أياً من المرشحين لرئاســة البلدية لم يتدخل، ولم يكن هذا في منطقة اهتمامنا.
هذا الســؤال الذي يحوم فوق القدس مشوق وتقليدي. ففي الأســبوع الماضي توفي رفل بــركان )بنكلر( صحافي ومحرر في «عل همشــمار» وهو مراسل سياسي كان صديقاً مقرباً من يوسي سريد حين كان هذا صحافياً، يكتب أنه كان جزءاً مــن اضطرابات الطلاب في باريــس في 1968، حيث كتب رســالة الدكتوراه مع أنه ســافر دون أن يعرف كلمة واحدة بالفرنســية. بحثه خصصه لتوحيد القدس، وحلل مكانتها القانونية. كتب رسالته بعد ثلاث سنوات من حرب الأيام الســتة، حين لم يتجرأ أحد في الحديث عن تقســيم القدس، وحين كانت إسرائيل في حالة نشوى كاملة.
مــن جهة قال إنه ليس لــأردن أي صلاحية قانونية في الســيطرة التي كانت لها علــى المدينة، «القــدس أدرجت قانونيــاً في ســيادة إســرائيلية من خــال تحقيق الحق الطبيعي للشعب اليهودي في تقرير المصير لبلاد إسرائيل، بعد أن احتلتها إســرائيل في ظل استخدام حق طبيعي آخر لها، هو حق الدفاع عن النفــس». وأضاف أنه وفقاً لتحليل القانون الدولي، فإن «القيد الوحيــد الكفيل بأن يثور على حق إســرائيل هو أن يقام كيان سياســي مستقل وسيادي للشعب الفلسطيني .»
في ختام رســالة الدكتــوراه، قال بركان إن الســيادة الإسرائيلية هي سيادة مكتظة، لأن السيادة العربية سيادة معلقة. وقد ســمح لنفســه بالحديث عن حل مثالي لتقسيم المدينة إلى إدارة مشــتركة وفقاً للأحياء المختلفة، تســوية عادت إلــى الحياة في عهد كامب ديفيــد، ايهود باراك، قبل أن ينهار كل شــيء. وبالمناســبة، رافق بركان مناحم بيغن عندما وصل الســادات إلى البلاد وغطــى إعلامياً عن كثب اتفاق الســام الذي وضعــت فيه البنيــة التحتية للحكم الذاتي الفلســطيني. تحليله منذئذ يشرح لمن نسي الموقف المتحفظ من الــدول في العالم على مكانــة القدس. هذا هو أيضاً الإغراء لترامب: تسوية الأمور، وعقد صفقة. متلازمة القدس للصفقات السياسية.
إشكالية ترامب
من جانب آخر، فإن كل تحليل لأعمال ترامب إشكالي؛ فلم يكن مصدر كبير واحد في القدس وافق على أن يقدر ما الذي ســيفعله. يمكنه أن يفعل كل شيء. كل شيء: تسوية، خطة أو لا شيء. وهو غير ملزم بتفســير لأحد، وسيرتب الواقع كما يريد. محافل في اليســار تدعي بــأن كل خطوة القدس من جانب ترامب، التي اســتفادت منها إســرائيل، هي على الإطلاق خطوة هدفهــا أرضاء الجمهــور الافنجيلي الذي انضم إليه رغم ســلوكه عديم القيود في المجال الشخصي. وهم اللاجئون الأكبر للخطة السياســية. ترامب يبدأ حملة ومشكوك في أن يرغب في تقسيم القدس وفقدان مصوتيه. في نهاية المطــاف، مثلما قال كيســنجر، فإن كل سياســة الخارجية في القدس هي سياسة داخلية. وهو محق، ليس لإسرائيل فحسب.
قــدس الذهب والسياســة والصفقات. الجولــة الثانية فــي الانتخابات لرئاســة بلدية القدس ترفــع إلى الذروة العاصفة الحزبية والسياســية والبلدية التي تميز المدينة التي تحيط بها الجبال، ويتجول فيها الوزراء. فالانشــقاق في المعســكر الأصولي أدى إلى الخســارة المتوقعة ليوسي دايتش وإلى عودة زئيف الكين، السياســي الخبير والحاد، إلــى وزارة حماية البيئــة. الفرضية السياســية التلقائية كانت أن موشــيه ليئــون، معتمر الكيبا المدعــوم من آريه درعــي وافيغــدور ليبرمان ســيجترف بســهولة أصوات الأصوليين للمرشحين اللذين تساقطا وسينتصر بسهولة. هذا لم يحصل. عوفر بركوفيتش، المرشــح العلماني لحركة اليقظة، نجح في وضع علامة اســتفهام. رغم كل الصفقات، ويتحدث الناس عن تصويت احتجاج من جانب الأصوليين في صالحه، وعن الكيبات المحبوكة الذين ســيصوتون في صالحه، رغم أن البيت اليهــودي أعلن عن تأييده لليئون. هذا الأسبوع سيتبين من ســيقف على المدينة الموحدة التي يريد الجميع تقسيمها. تقسيمها لأنفسهم وأحياناً للآخرين. معاريف 2018/11/9