Al-Quds Al-Arabi

هل كان شارل ديغول الرئيس الوحيد الذي عاقب إسرائيل؟

فانسان نوزيل في «الوقائع التاريخية السرية للعلاقات الفرنسية ـ الإسرائيلي­ة»:

- سمير ناصيف

هل يمكن اعتبار الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول، الوحيد الذي تجرأ على الوقوف في وجه تجـاوزات إسرائيل وتنفيذ عقوبات فاعلة ضدها؟

سؤال يحاول الصحافي والكاتب الفرنسي فانسان نوزيل، الذي يعتمد على البحث التاريخي المعمق والمقابلات مع المسؤولين الكبار السابقين والحاليين، الإجابة عليه في كتابه الصادر بالفرنسية مؤخراً بعنوان: «الوقائع التاريخية السرية للعلاقات الفرنسية ـ الإسرائيلي­ة بين عامي 1948 و2018».

برغم ان الكاتب تناول هذا الموضوع الدقيق والحساس بأقصى قدر من التوثيق، فقد عالج الخطط التي اعتمدتها إسرائيل واللوبي الصهيوني المؤيد لها في فرنسا في مبادراتهما لتزويد الدولة العبرية بالسلاح من فرنسا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وتحريض القيادة الفرنسية آنذاك على المشاركة في حرب 1956 في السويس ضد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والدولة المصرية وكأنها عملية سياسية عادية )وليست جريمة تاريخية( فإن هذا الكتاب يبقى جدياً معقداً على الوثائق والبحث المفيد.

وتبرير هذه العملية ضد مصر في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي كما ورد في الكتاب على لسان بعض كبار المشاركين فيها كالمسؤولين الإسرائيلي­ين السابقين شمعون بيريز وديفيد بن غوريون، ان عبد الناصر سعى منذ تسلمه السلطة في مصر عام 1954 إلى القضاء على دولة إسرائيل وغزوها عسكرياً وبالتالي تحتاج الدولة الإسرائيلي­ة للأسلحة الثقيلة والطائرات المتطورة للدفاع عن نفسها.

بيد ان نوزيل يشير في الفصل الأخير )الخلاصة( إلى ان الجنرال ديغول كان الرئيس الفرنسي الوحيد الذي وقف بصلابة ضد استخدام إسرائيل لطائرات عسكرية زودتها بها فرنسا في حرب الأيام الستة عام 1967 وقرر معاقبتها بإيقاف تسليمها خمسين طائرة «ميراج ـ 5 كانت قد وُعدت بها. وما فعله ديغول ليس فقط اتخاذ هذا القرار بل القيام بتنفيذه، برغم الصعوبات الداخلية والخارجية التي واجهته. وقد ظل هذا القرار ساري المفعول حتى بعد تنحيه عن الرئاسة بقراره الشخصي عام 1969، ولم يجرؤ خليفته الرئيس جورج بومبيدو على كسر هذا القرار.

وحجة ديغول كانت، حسب المؤلف، ان فرنسا سلمت إسرائيل الأسلحة الثقيلة والطائرات العسكرية للدفاع عن نفسها، ولكن إسرائيل استخدمتهما لتنفيذ هجوم على مصر وسوريا عام 1967 لاحتلال المزيد من الأراضي على الرغم من أنه )أي ديغول( حذّر القياديين الإسرائيلي­ين من خطورة القيام بذلك.

ويعتبر الفصل الأخير ان مواقف ديغول الصلبة والواضحة كانت لو استمرت ستواصل وتدعم فعالية الـدور الفرنسي في التأثير على سياسة إسرائيل، فيما ترأس فرنسا من بعد ديغول رؤساء يخشون مواجهة إسرائيل وتجاوزاتها. )ص362 ـ 364.)

ويضم الكاتب في هذه الشلة من الرؤساء جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وإيمانويل ماكرون اليمينيين، وفرنسوا ميتران وفرنسوا أولاند الاشتراكيي­ن، حيث يقول ان أقصى ما طالب ويطالب به هؤلاء من إسرائيل، هو التفاوض المستمر مع الفلسطينيي­ن من دون التهديد بعقوبات أو بخطوات ضاغطة مطلوب تنفيذها، كما فعل ديغول.

وغطت الفصول 6 إلى 15 ما فعله كلٌ من هؤلاء الرؤساء بعد ديغول في هذا المجال، وركزت على الازدواجية في مواقفهم. فيقول في الصفحة )362( ان الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون يُعلن معارضته للاستيطان الإسرائيلي ويؤيد في الوقت عينه معاقبة ممارسي حملة مقاطعة البضائع التي تُصدّرها هذه المستوطنات إلى فرنسا وغيرها «حملة .»

اما ديغول، فكان، حسب نوزيل، صاحب موقع نفوذ قـوي، خلال رئاسته، بين الاتحاد السوفييتي، من جهة، والولايات المتحدة، من جهة أخـرى، وكانت جميع الجهات تأخذ بنصائحه فيما تأثر قادة فرنسا من بعده بجهات مالية واقتصادية نافذة داخل وخارج فرنسا منحازة لإسرائيل وبعضهم خضع لها وبينها عائلة روتشيلد التي عمل مديراً لمصالحها قبل عمله السياسي الرئيس جورج بومبيدو، كما كان أحد أركان مؤسساتها الرئيس الحالي ايمانويل ماكرون قبل احتلاله موقع وزارة الاقتصاد ثم رئاسة الجمهورية.

وبالإضافة إلى آل روتشيلد، مارست عائلات شديدة الثراء والتأييد لإسرائيل نفوذها للتأثير على بومبيدو ودفعه لإلغاء الحظر الذي فرضه ديغول على تسليم طائرات «الميراج ـ 5» إلى إسرائيل، وبينها عائلة داسو، التي تصنع الطائرات الحربية والمعدات العسكرية. ولكن بومبيدو عجز عن كسر قرار ديغول عندما كان رئيسا للجمهورية، مما يؤكد أهمية الجنرال ديغول في تاريخ فرنسا الحديث وضعف الذين خلفوه بالنسبة لمواجهة إسرائيل أو في السياسات الدولية الأخرى عموماً.

في الفصل الثالث، يقول المؤلف ان ديغول التقى رئيس الــوزراء الإسرائيلي السابق ديفيد بن غوريون في 17 حزيران/يونيو 1960 في قصر الاليزيه في باريس وسأله: «لمـاذا تريد إسرائيل امتلاك القنبلة النووية؟» علماً ان شمعون بيريز كان قد مهد في لقاءات سابقة مع مسؤولين فرنسيين آخرين للحصول على معدات لإنشاء مصنع نووي في ديمونا متذرعا بانه لأغراض سلمية.

وردّ بن غوريون على سؤال ديغول بقوله ان إسرائيل مضطرة للتسلح النووي لأن الرئيس عبد الناصر يمتلك طائرات «الميغ ـ19» التي حصل عليها من السوفييت والتي في إمكانها ان تدمر إسرائيل )ص 59.)

ويشير الكاتب إلى ان الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور الذي ترأس الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي كانت أيضا له تحفظات حول امتلاك إسرائيل للسلاح النووي. وكذلك الرئيس جون كينيدي الذي خلف آيزنهاور في مطلع الستينيات وقضى اغتيالاً.

وكان جواب ديغول على بن غوريون أنه إذا امتلكت إسرائيل السلاح النووي فإن مصر ستمتلكه بدورها، وبالتالي فان فرنسا لن تعدّل أو تتجاوز الاتفاق الذي تم مع إسرائيل في عام 1957 بان الدولة العبرية ستستخدم الطاقة النووية لأغراض سلمية )ص 60 ـ 61( ولكنه وعد بن غوريون بأن فرنسا ستدعم إسرائيل في حال محاولة أي جهة عربية )مصر أو غيرها( تدميرها.

وفي كانون الأول/ديسمبر 1959 وجه آيزنهاور مذكرة إلى فرنسا )قبل انتهاء ولايته( مطالباً بالتأكد من ان إسرائيل لن تستخدم اليورانيوم الذي ترسله فرنسا لها للتسلح النووي وذلك بعد تسلم الرئيس الأمريكي تقريراً من استخباراته بان إسرائيل تستخدمه لمثل هذا التسلح.

بعد صعود جون كينيدي إلى منصب الرئاسة الأمريكية، التقاه غوريون في أيار/مايو 1961 في نيويورك حيث عبّر كينيدي عن معارضته لتوسيع البرنامج النووي الإسرائيلي )ص 66(. كما طالب فرنسا بعدم استئناف أو تجديد الاتفاق النووي الذي وقعته مع إسرائيل وبإجراء تفتيش متواصل أمريكي ـ دولي لما يجري في مصنع ديمونا الإسرائيلي.

وفي حزيران/يونيو عام 1961 مرَّ بن غوريون في باريس وطلب من ديغول المزيد من الأسلحة الفرنسية وأبلغه عما جرى في لقائه مع كينيدي. وقبل اتخاذ ديغول قرارات الحظر، سلمت شركة «داسو» الفرنسية 72 «طائرة ميراج ـ 3» إلى إسرائيل. غير ان ديغول وبعد اضطراره لتسليم شحنة من اليورانيوم متفقٌ عليها سابقاً إلى إسرائيل، أعلن عام 1963 انه قرر التحفظ بعد ذلك إزاء توقيع أي اتفاقيات عسكرية جديدة مع إسرائيل. فاتجهت إسرائيل إلى استيراد اليورانيوم من افريقيا الجنوبية العنصرية )ص 69( واكتشفت فرنسا ان إسرائيل استوردت البلوتونيو­م أيضا وأصبحت قادرة على صناعة قنبلتها النووية )ص 70( أي ان إسرائيل نشطت وعملت في الخفاء وراء ظهر اتفاقها مع فرنسا.

عند ذاك قرر الجنرال ديغول الانفتاح إلى درجة أكبر باتجاه الدول العربية بعد ان كانت علاقات فرنسا متأزمة بها على إثر أزمة السويس 1956 )ص (.72 فأعاد ديغول العلاقات مع مصر وسوريا والأردن والسعودية والعراق عام 1963، وبدأت زيارات المسؤولين العرب إلى باريس في منتصف ستينيات القرن الماضي )ص 73(. ورفض ديغول منذ ذلك الحين طلبات إسرائيل المتكررة للطرازات المتطورة من طائرات الميراج وعيّن موريس كوف دو مورفيل المعتدل عربياً وزيراً لخارجيته، فنشأت معارضة داخلية لكون دو مورفيل بقيادة بومبيدو مدعومة من الاقتصاديي­ن الأثرياء الكبار المؤيدين لإسرائيل في فرنسا )روتشيلد وداسو( ومن إسرائيل بقيادة ليفي اشكول رئيس الوزراء.

في 22 أيار/مايو 1967، نصحَ ديغول بصراحة ووضوح وزير الخارجية الإسرائيلي ابا ايبان، خلال زيارة الأخير إلى باريس، بألا تتخذ القيادة الإسرائيلي­ة قراراً بالهجوم على مصر وعلى جيران إسرائيل لأن هذا الأمر سيشعل حرباً كبرى وسيحدث انعكاساً سلبياً كبيراً )ص 80 ـ 82(. ولكن إسرائيل فعلت ذلك بعد إرسال عبد الناصر قوات عسكرية إلى شرم الشيخ. وكان ديغول قد دعا قبل الهجوم الإسرائيلي الدول الأربع الكبرى للتدخل لمنع حدوث مثل هذه الحرب.

وبرغم كل ذلــك، هاجمت إسرائيل مصر ودمــرت بواسطة طائراتها الفرنسية الصنع في 5 حزيران/يونيو 1967 الطائرات المصرية الحربية في مطاراتها واحتلت أجزاء من مصر وسوريا والأردن وصحراء سيناء وغزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان السوري.

الجنرال ديغول دعا إسرائيل آنذاك للانسحاب من الأراضي التي احتلتها وحظي بتأييد جميع الدول العربية والاتحاد السوفييتي، وطالب بمؤتمر سلام دولي ولكن إسرائيل وأمريكا بقيادة ليندون جونسون رفضتا ذلك )ص 87.)

وفي 8 حزيران/يونيو 1967، استقبل ديغول المرشح الرئاسي الأمريكي ريتشارد نيكسون، وكان الهجوم الإسرائيلي ما زال مستمراً على العرب. واتفق ديغول ونيكسون على ان هذه الحرب شكلت اذلالا للعرب والمسلمين وان إسرائيل نجحت فيها بسبب الأسلحة والطائرات التي تسلمتها من الغرب )وخصوصاً فرنسا( وقررا ضرورة الانفتاح السياسي على الاتحاد السوفييتي من أجل تطبيق قرارات دولية لإعادة الأراضي التي احتلها إسرائيل. )ص 87 ـ 88(. وبالتالي، أصبح ديغول أحد قادة دول عدم الانحياز في العالم، )حسب المؤلف( وصـار من المتحفظين على الحرب الأمريكية في فيتنام ومعارضي بعض سياسات دول حلف شمالي الأطلسي )الناتو( التوسعية، وتحول إلى واحد من كبار المنتقدين البارزين لسياسات إسرائيل. وبالتالي، ازدادت الضغوط السياسية الداخلية والخارجية عليه بدعم من كبار أثرياء فرنسا والعالم المؤيدين لكل ما تفعله إسرائيل من تجـاوزات. وعندما شعر ان من الصعب عليه تنفيذ قراراته المصيرية استقال واعتكف، وخصوصاً بعدما بدأت إسرائيل بشن عمليات ضد حلفاء فرنسا في الخارج. وقال اعتكافه، حسب المؤلف: «لماذا سأعطي المزيد من الطائرات المتطورة لإسرائيل، هل من أجل ان تشن هجوما على القاهرة ودمشق وبيروت؟». وبالفعل أصدر ديغول حظراً كاملاً على تصدير السلاح لإسرائيل بعد الهجوم الإسرائيلي على مطار بيروت في .1961/12/28

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom