Al-Quds Al-Arabi

راوي «دون كيخوته»: طواحين السرد

-

« الــورق أمامي والقلم على أذني، ومرفقي إلى المائدة؛ وكفي على خدي؛ أفكر في ماذا أقول.»

أظن أن هذه الحال التي برع ســرفانتس في تصورها فــي اســتهلاله وهو يســتأنس بصديــق «قريــن» أرجح أنــه متخيل أو مــن صنع الكاتب؛ هي حالــي وأنا أحاول في هــذه المقاربة أن أبحث في «دون كيشــوت» أو «دون كيخوته» من حيث هي نــوع روائي، أزعم أنه يفيض على الروايــة والســيرة الذاتية معا؛ وهو الســيرة الروائية أو «الرواية الذاتية .»

وهــو ليس مــن أدب التراجــم ولا الاعترافــ­ات، وإنما هو قصــة وتخييــل، أو هو ملتقــى الفن والحيــاة، حيث يلتبس التاريخ بالواقع والسيرة والرحلة أو السفر. فثمة صلات وثيقة ســواء في المستوى الزمني أو في مستوى الشــخصية. ولا مســوغ لذلــك ســوى الاســتطرا­دات والحكايــا­ت العارضــة أو المصاحبة التــي تنتظم القصة كلهــا. وقد لا نتردد في القول إنها ســليلة مؤثرات عربية أندلســية. فثمة بنية عطفية أشــبه بـ«واو العطف تعطف حكاية على حكاية، وتحول دون تداخلهما.

وهــي بحكم تكرارها تتيح للقارئ أن يظل في الصميم من الســياق الذي يجري فيه الــكلام وربما تتيح له أيضا اســتعادة هذا الســياق، مادامــت؛ بحكــم ثباتها، تحول دون عطــب الســرد، وتبنــي خطا مــن «الاطــراد» داخل بنية «الاســتطرا­د» التي تقــوم عليها القصــة أو الرواية؛ إذا جــاز أن نعــد «دون كيخوتــه» رواية. وقــد يذهب في الظن أن هذا الضرب من الاســتطرا­د من شــأنه أن يشتت انتبــاه المتلقي وهو ينقلــه من موضوع إلــى آخر. وليس الأمــر كذلــك، فالكاتب يتوخــى نوعا من الاطــراد يجعل المتلقي منشــدّا إلى «الفضاء القصصي» الذي تجري فيه الحكاية؛ وهو أشبه بصدى يتردد في جنبات النص كله. وكلامنــا هذا يعززه قول منندث بلايــو في أن هناك أكثر من نوع ســردي ينتظم دون كيخوته مثــل النوع الرعوي )حكايــة مرثيلا وخريســتو( والنــوع العاطفــي )أخبار كردنيــو(، وآثار إيطاليــة تتخلل ثنايــا الحكايات، وهي من مؤثرات إقامة ســرفاتنس في إيطاليا. ويشير منندث بيدال إلى أن الفصول الأولى من الجزء الأول مقتبســة، أو هي مأخوذة من مســرحية قصيــرة لمؤلف مجهول؛ إذ يرى البطل نفســه في مرآة أبطال الملاحم الشــعرية، في ما هو شــخصية واضحة المعالم في الفصول المتلاحقة. ونضيــف نحــن إليهــا القص العربــي، بما يؤكــد أن هذا النــص العجيــب «طاحونة ســردية» كما أحب أن أسِــمَه وأســميه؛ ففي الجزء الأول تظل نهايــة المبارزة بين دون كيخوتــه والبشكونشـ­ـي معلقــة أو غامضــة: «وراحــت ســيدة العربة والنســوة اللواتــي كن معها ينــذرن آلاف النذور لسائر القديسين في الجنة... من أجل أن ينقذ الله حامل ســاحهم». ويسوغ المؤلف قطعه حبل القص بأنه لم يجد شيئا مكتوبا يتصل بأعمال دون كيخوته المجيدة أكثــر مما رآه. ثم يضيف «صحيــح أن المؤلف الثاني لهذا الكتــاب لم ييأس مــن أن يعثر على خاتمــة لهذه الحادثة الشائقة .»

ومــن ثمــة يحضر النــص العربــي الغائــب من خلال كراســات قديمة مكتوبــة بالعربيــة، كان صبــي يبيعها لتاجر أقمشــة في درب القناة في طليطلة. ويطلب المؤلف من عربــي متنصر صار من الأعاجــم؛ أن يترجمها له إلى الإســباني­ة، أو على الأقل ما يتعلق بدون كيخوته؛ بدون أن يضيــف أو ينقص شــيئا. وعنوان هذه الكراســات أو المخطوطة «تاريخ دون كيخوته دلا منتشا، تأليف »سيدي حامد بــن الإنجيلــي». ويرى خوســيه انطونيــو كونده أن معنــى «ابن الإنجيلي» أو «الأيلي» هــو المقابل العربي لاســم سرفانتس نفســه. ولا غرابة أن يكون الأمر كذلك؛ فســرفانتس ألــمّ على ما يبدو بشــيء مــن العربية أثناء أســره في الجزائر خمس سنوات؛ بل قد يكون هو نفسه سليل عائلة موريسكية.

نقف في الكراســة الأولى المنســوبة إلى هــذا العربي المجهول أو متهم الأصل، على تفاصيل المعركة التي دارت بين دون كيخوتة والبشكونشـ­ـي، وهما في الموقف ذاته الذي تركتــه عليهما القصة أو الحكاية المعلقة: الســيفان مشــهوران، وأحدهما بلأمته مغطى، والآخر بوســادته. ويقول المؤلف: «وثمة تفاصيــل أخرى يمكن ملاحظتها، لكنها ليســت ذات شــأن يذكر. والاعتــرا­ض الذي يمكن أن يوجــه من حيث صدق قصتنا هذه هــو أن مؤلفها من العرب؛ والكذب شــائع جدا بينهــم». ويلي ذلك كلام في أمانــة المــؤرخ وصدقه، وتجــرده من الأهــواء العصبية: «وإذا كان ينقصه شــيء حسن، فاعتقادي أنا أن الغلطة فــي ذلك ليســت غلطــة الموضوع؛ بــل غلطة هــذا المؤلف الكلب»، ومع ذلك نجده يواصل القصة بأسلوب الخطاب المنقول؛ فيســند الكلام إلى السارد العربي «روى الحكيم سيدي بن الإنجيلي أن دون كيخوته لم يكد يودع ضيوفه والحاضرين دفن خروستمو؛ حتى دخلا الغابة.»

يعرف جميعنا أن القصة مستوحاة من سيرة مجنون ما، أو مختبــل أدمن قصص الفروســية. ويجدر الانتباه إلى أنها ســخرية من قصص الفروســية التي شاعت في القرن الســادس عشر. والبطل اضطر من أجل أن يحصل علــى هذه القصص، إلى بيع أجود أراضي القمح لديه، أو قوله في فصل لاحق «وبالجملة فقد كان غارقا في قراءته هــذه الكتــب... كان يثني كثيــرا على المــارد مورجانته... وكان آثرهم عنده رينالــدوس دي مونتالبان، خصوصا حين يخرج من قصره وســلب كل من يلقى في طريقه من الســابلة، أو حين ذهب ليســرق تمثال محمد في الناحية الأخــرى؛ وكان هذا التمثــال من خالص الذهــب، في ما يقولون». ولا يخفى أن هذه الأقاويل والتخرصات، كانت من آثار الحروب التي نشــبت بين المســلمين والمسيحيين في إســبانيا. أو قوله: «يظــن أن كل ما يقع له وما يراه أو يفكر فيه؛ إنما يقع على غرار ما قرأ.»

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom