Al-Quds Al-Arabi

بلاغة المغاربة: من منهج التبويب إلى إطار العلم الكُلّي

- ٭ شاعر مغربي

قد يكون حازم القرطاجنــ­ي أثّر في العمل البلاغــي على نحــو خــاص، إلّا أنَّ مقرّرات بحثــه البلاغــي المدهش لم تســلم مــن أثر النزعة المنطقيــة، ولعلّ أوضح الأدلة على هذا الاتجاه منهجه القائم على التقسيم والتفريع، والمدعوم بالمنطق والفلسفة.

بيد أننا نتبيّــن توجُّهه نحو وضع القواعد والأصول فــي إطار «العلــم الكُلّــي» لمعرفة تناسب المســموعا­ت والمفهومات من جهة، ثم تمييز التخييل والتصديق من جهة أخرى.

هــذا مــا ســوف يتبلــور بوضــوح عند عالِميْن يُحســبان على المدرسة المغربية، هما السجلماســ­ي وابن البنّاء العددي، وإن كان قد بدأ، قبل ذلك، مع أبي طاهر البغدادي، ليس داخل علم البلاغــة بحدّ ذاته، وإنمــا ما يهمُّ تحديدا بلاغة الإيقاع.

«قانون» أبي طاهر

يتّجه أبو طاهر البغــدادي )ت517هـ( في «قانون البلاغة في نقد النثر والشــعر»، نحو تقنين البلاغــة وتقويمها بوصفهــا صِناعة، وليس «فنّا» تتنازعه الأذواق والأهواء. وإذا كان أبــو طاهر يظهر في «قانونه» مســتثمرا جهود ســابقيه الذيــن ارتقــوا بالبلاغة إلى مستوى أن تكون «علما» ناظما لقضايا الكلام العربي شــعره ونثره، فإنَّه يســعى إلى أن يكرّس قواعديّة هذا العلم، ويكشف سبله لمن «يخرجون عن طريق البلاغة ومنهاج الكتابة » من جهة الألفاظ والمعاني، وهو يُعرِّف البلاغة بأنَّها: «ليست ألفاظا فقط، ولا معاني فحسب، بل هي ألفاظٌ يُعبَّر بهــا عن معانٍ، ولكن ليس كما اتّفق، ولا كيفما وقع.»

إنَّ هذا المســعى يبرّره أبو طاهر بما وجده من الحشــو والاســتكر­اه والتعبيريّة الفجّة والتنميــق، التي بدأت تطــال وجوه البلاغة وتموّهها في عصره؛ فيريد أن يعود بالبلاغة إلى أصلها في أن يُعبَّر عــن المعنى الدالّ على الألفاظ بأقــلّ منها، وأن تكــون صناعة «لها ما لــكُلِّ صناعةٍ مــن المبــادئ والموضوعات والأدوات». وهــذه البلاغــة لن تهمّ الشــعر وحده، بل النثر الذي صار يُضاهيه في اختبار أشــكال التعبير الفني والبلاغــي؛ وبالتالي، فمقاييس البلاغة النثرية والشعرية واحدة، وتتطابــق تطابقا يــكاد يكون تامّــا في أكثر ما يعتمده الشــعراء والناثــرو­ن من جوانب الصناعــات اللفظيــة والمعنويــ­ة. وعلى هذا الأســاس، فالنثــر لا يُفرّقه عن الشــعر غير الوزن العروضي، أما في غير ذلك فهما ســيّان في مضمار الكتابة.

وفي هذا الســياق، يكشــف مجمــوع تلك الوجوه التي تتحقّق بها بلاغة الشِّعر وبلاغة النَّثْر معا، ويركِّز على مبدأين: توخّي الانتظام والرصــف، وإصابة المقــدار. وهما لا يُحيلان على معيــار الجــودة والرداءة الــذي يؤكّد عليه، فحســب، بل يعنيان كذلك ما فيهما من درجات التناسب والمواءمة، وما يَشِيان به من ممكنات الإيقــاع وطاقاته البديعيّة )الموازنة، والترصيــع، والتســميط، والتصريــع، ورد العجز إلى الصدر(.

من وجوه البلاغــة في المعنى إلى وجوهها في اللفظ، التي عالجهــا منفصلة عن بعضها بعضا، ثُمّ ما فرّع عنها نحو خمســن نوعا من «فنون» البديــع التي بدَتْ شــاردة بلا داعٍ، فإنّ «قانون» أبي طاهر لم يســلم من المعيارية المســكونة بمنطــق التقســيم إلى أجــزاء، وبالتالي فشــل في ما أراد تقويمه والتقعيد لــه، وقد ألهم هذا القانون قوانين فــي البلاغة تالية؛ مثل «مفتاح» السكاكي )ت626هـ(، و«إيضــاح» القزويني )ت733هـ(، اللذين ســارا في اتّجــاه تكريس البعــد التداولي للبلاغــة، وجعل وجــوه البديــع تابعــة ومقولاته فرعيّة ومتجاورة.

«منزع» السجلماسي

لم يكن مشروع أبي محمد القاسم السجلماسي، في «المنزع البديع في تجنيس أســاليب البديــع»، بعيدا عــن ذلك الجــدال الــذي كان يتمُّ، فــي فتراتٍ متقطّعة، بين «مســموع القول» و«مفهوم القول»، ولا سيما في بُعدَيْهِ المنطقي والرياضي، وهو ما سار ابن البنّاء فيه شَوْطا ثانيا، بــدون أن يتقيد بنظريّة النســبة والتناسب في خواصّها المائزة.

يطــرح السجلماســ­ي، من داخــل تصوُّرٍ نظريٍّ ـ نسقيّ، رؤية جديدة تسعى إلى إعادة الاعتبــار للعمل البديعــي، وتنظيم صناعته في إطار علــم البيان أو فلســفة أبنية الكلام ودلالاتــه اللفظية والمعنويــ­ة. ذلك ما تصفح عنه، بشكْلٍ واضحٍ، شــبكة المصطلحات ذات الطبيعــة الفلســفية والبلاغية فــي جانبها اللغوي ـ الصناعي واســتعمال­ها الجمهوري. يضع السجلماســ­ي قضايا الكتاب في شــكْلٍ هرميٍّ يُمثّــل قمّتَه عنوان المنــزع، بينما تُمثّل قاعدته تلك الأجنــاس العشــرة، مُتتبِّعا كلَّ جنْسٍ بمفاهيمــه وتفريعاتــ­ه الاصطلاحية نظريّا وتطبيقيّا. فهو يجعل مجموع المحسِّنات البديعية في أجناسٍ عُلْيا عَشْــرةٍ تتفرّع عنها أجناسٌ متوسِّطة. داخل هذه الأجناس، يُركَز السجلماســ­ي على المقوِّم الصوتي ـ الإيقاعي على نحو يكشف تمكُّنه من علم الأوزان ويبرز شــخصيّته المســتقلّة في مناقشــته لقضايا الشــعر والعروض فــي مواضع مــن كتابه، في ما هو يُقارب علاقات التناســب الصوتي والدلالي.

ظهر ذلك منســجما مع تعريفه للشعر الذي ثمّن فيــه قيمة الوزن والإيقــاع داخل رؤيته للتناسب ومســتويات­ه، وهو يقول: «إذا كان الشّــعر هو الــكلام المخيّل المؤلَّــف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مُقفّاة: فمعنى كونهــا موزونــة: أن يكون لها عــددٌ إيقاعيٌّ. ومعنى كونها متساوية هو: أن يكون كلُّ قوْلٍ منها مؤلَّفا من أقــوالٍ إيقاعيّةٍ، فإنَّ عدد زمانه مُســاوٍ لعدد زمان الآخر، ومعنى كونها مُقفّاة هو أن تكون الحروف التي يختتم بها كلُّ قوْلٍ منها واحدة .»

فهو، مثل صنع سابقيه من الفلاسفة، يجعل الشــعر مُخيّلا، متوتِّرا بين الوزن والمحاكاة، إلَّا أنّه يُقدِّم أبلغ الصياغــات البلاغية لمفهوم التناســب الّذي تُحقِّقه بنية التكرار في الكلام الشــعري، وهو يتناول ـ تنظيــرا وتطبيقا ـ صيغ المشــاكلة )البناء، التجنيس بأنواعه، المعادلــة بمــا فيها مــن تصريــع وموازنة(، والمناسبة والمناظرة )التصدير، الترديد(. ولم يفصل السجلماســ­ي بين الصّوْت والدلالة في مناقشته للتناســبي، أو الملائمي بتعبيره، بل جعل التناسب الصوتي الذي يتحقّق بعناصر وزنية وتقفوية وانتظاميّة قســيما للتناسب في المعاني الذي يتحقّق عبر مُقابلاتٍ دلاليّة.

إنَّ التناســب، كمــا يتحــدد مــن قــول السجلماســ­ي بعبــارات المشــاكلة والمعادلة والمناســب­ة، هو علاقــة تماثُلٍ أو تعــادُلٍ بين طرفــن أو أكثر، ويحــوز جملة من ســمات التــوازي الصوتــي ـ الدلالي الــذي يبدأ من الإحســاس بالقيمــة التعبيريــ­ة للأصوات ومراعاة نســق الصوائت مــا الصوامت في الألفــاظ، ليتعــدّاهُ إلى فهم التشــكيل الفنّي الذي يقترن بعلاقات مجازية بسيطة ومركّبة تقتضيها طبيعة الكلام الشــعري. وهكذا فإنّ فاعليّة الإيقاع تنشــأ من التناســب الصوتي الذي يتــمُّ عن طريق توزيع الألفاظ في الجمل المتّصلة ببعضهــا، أو المترتّبة على بعضها عن طريق الترادف أو التضادّ في المعنى. لا ندّعي أن السجلماســ­ي قارب الإيقاع رأســا، ولكنّه أضاء مجــال القول الذي يتحــرّك فيه ممكن الإيقاع، وهو يُعيد تأويــل المقوّمات البديعية والموازنات الصوتية في القول الشعري.

لقد بدا «منزع» السجلماسي، عبر صياغاته المقوليــة المنطقية الظاهــرة وطبيعة ترتيبها الدقيق لها، تتويجا لعمــلٍ معرفيٍّ بُذِل خلال فتراتٍ متلاحقة، فــي مباحث وحقول متنوّعة ومتفاعلة: عروضية، بلاغية ـ نقدية، إعجازية وفلسفية. كما بدا أنّ أهمَّ ما يميّزه، نتيجة لكلِّ ذلك، نزعته التركيبيّة التي تستقصي عناصر البحث، وتُحلّل وقائعــه وملفوظاته، وتعيد تجميعها وتوجيهها في نســقٍ نظــريٍّ كُلّي لا يخلو من تجريدٍ وتجرُّد في آن.

قَوْلبة ابن البنّاء

تتأكّد هذه النزعة في مشــروع ابن البناء المرّاكشــي )ت721هـ( كما يتجلّــى من كتابه «الروض المريــع في صناعة البديــع»، الذي حاول فيــه أن يضــع كلّيــاتٍ لعلــم البديع )البلاغــة( ويحصرهــا فــي جملــة قوانين تضبط أنماط الخطــاب، فيما هي تنضبط بها الجزئيات المندرجة تحتها وتتفرع عن تصوُّره للعلم الذي فهمه «من جهة الاستدلال بالألفاظ على معانيها .»

بموجب هــذه الكُلّيات، التــي ترجع إليها كيفيّــة العبارة في البيان، يعتقــد ابن البنّاء أنَّه يتحقَّق تقريـُـب البيان من الأذهان؛ فيُفهمُ كتابُ الله وســنّة نبيِّهِ، كمــا تُفهمُ المخاطبات البشــرية كلُّها. فهــو يُعيد ترتيــب المباحث البلاغية، مُتجاوزا حصر البديع في المحسنات )اللفظية أو المعنويــة(، إلى افتراضه صناعة ترجع إلى القول ودلالته على المعنى المقصود، ولذلك ربطــه بالمقاصد وأســاليب الخطاب. وهكذا، فــإنّ المقوّم الصوتــي ـ الإيقاعي عبر بحثه في الكلّيــات يتراجع إلى الظلّ، ويخلي مكانــه لصالح المقــوّم الدّلالي، ســواء في ما يتعلّق بسياق الأســلوب، أو بالتناسب الذي جعله بين الأشياء في التصوُّر: تنقسم الدلالة عنده إلى دلالة المنطوق ودلالة المفهوم ودلالة المعقــول لا من جهة كونها أصــل الارتباط بين اللفظ والمعنى فحســب، بل من جهة التخاطب كذلك.

إن بدا ابن البنّاء متأثّرا بقراءات الفلاسفة المسلمين، كما يظهر من تعريفه للشّعر، بقوله: «هــو الخطــاب بأقــوالٍ مخيّلةٍ على ســبيل المحاكاة، يحصل عنها اســتفزازٌ بالتوهُّمات ،» وجعله الشعر جنسا من القول، وجعله الكذب أدخــل في الشــعر لأنه «مبنيٌّ علــى المحاكاة والتخيل لا على الحقائق»، إلّا أنّه ســكت عن الإيقاع الــذي كان مقترنا بتعريفهم للشــعر بوصفه قَوْلا شــعريّا. الشعر كلامٌ مُخيّل أوّلا، قبل أن يكون تأليف أقوالٍ موزونة متســاوية ومقفّاة، كأن لا نظر له كمنطقيّ في شــيْءٍ من خــارج ذلك. لهذا لا نعتقد أنّ هناك انســجاما بين رؤية ابــن البناء لعلــم البلاغة ونظرية الفلاسفة المسلمين، ولا هناك تقاربا أقوى بينه وبين حازم، كما يذهب محقق الكتاب رضوان بنشــقرون في مقدّمته. إنّما هنــاك تباينٌ في الرؤى نتيجة اختلاف المقاصد.

وربّما أملى علــى ابن البناء ذلــك النظر، هو اســتراتيج­ية تأليف الكتــاب الذي أَوْقفه على معرفة التفاضل فــي البلاغة والفصاحة لفهم أنمــاط الخطــاب، والقرآنــي تحديدا، «ولم يَشُــذَّ منه ـ كما يقول هو نفســه ـ إلّا ما هو مــن موضوع صناعة العَــروض وصناعة القوافي وبعض ما يخْتصُّ بالشــعر من حيث هو شــعر». وحتّى في حديثــه عن التجنيس الذي جعله من أنواع المشــاركة وأســهب فيه اشــتقاقا وتفريعا، فهو يتناوله خارج شرطي الوزن والقافية الذي بهمــا تتحقّق الموازنات الصوتية في الشــعر. لكــن تأثُّــره بنظريّة التناســب الرياضي بدا للعيــان، وهو يحلّل جملة القوانــن ويُركّبها ويســتبدل عنصرا بآخر من عناصرها بشــكْلٍ جعلها مُسْــتغرَقة أكثر في أقيســة المنطق. عدا أنّ كثيرا ممّا ورد من أنــواع التجنيــس واصطلاحاته يتقاطع مع ما ورد عند معاصره السجلماســ­ي. فنحن نلمس تقاربا بــن عمليهما من حيــث أفقهما النظري، وهو تقارب يفســره عباس أرحيلة كالآتي: «وأعتقد أن ســبب التشــابه بينهما يرجع إلى رغبــة كل منهما فــي وضع كليات للبلاغة: فالسجلماسـ­ـي حصــر الكليات في عشــرة أجناس.. وابن البناء حصر الكليات في ســبعة مباحث ضبطتها قوانين الأساليب. فمشروع كل منهما يهدف إلى إحصاء القوانين الكلية وتجريدها من المــواد الجزئية» (الأثر الأرســطي في النقد والبلاغة العربيين(، فيما يرى علال الغــازي أن «الــروض المريع لابن البناء كنص ينتمي إلى التيار الفلســفي الذي قاده حازم بمنهاجه والسجلماسـ­ـي بمنزعه، ولم يبلغ هذا الرياضي مســتواهما لانشغاله بحقول عملية أخرى» (مناهج النقد الأدبي في المغرب(، وفي المقابــل، يتغاضى ابن خلدون عن بلاغــة المغاربة خــال القرنين الســابع والثامن للهجرة، ويتحامــل عليهم بقوله إن أهل المغرب اختصوا بعلم البديع، «وفرّعوا له ألقابا وعدّدوا أبوابا ونوَّعوا أنواعا، وزعموا أنهــم أحصوها من لســان العــرب وصعُبتْ عليهم مآخذ البلاغــة والبيان لدقة أنظارهما، فتجافَوا عنها » (المقدمة(.

من نافلة القــول أن نثبت، هنــا، أنّ رؤية السجلماسي وابن البنّاء معا، واستراتيجي­ة عملهما المركِّب، كان مما أمــاه عليهما زمَنُهما المتأخِّــر، بعد أن تفشّــتْ في فضــاء الثقافة العربيــة العالمــة آليّــات النقــل والاجترار والتلخيص، وغنمــت كتبُ الُمقلّدين، في علومٍ شــتّى، صمت العقل وروحــه المبدعة، وبعد أن تفشّــتْ في مباحــث الدراســة البلاغيّة، والبديعيّة تحديدا، نزعــة التجزيء التي إن أولت اهتمامها للعنصر الصوتي، فقد عالجت تشكُّلاته بطريقة غير ناجعة، ففقدَتْ كلَّ صِلةٍ بأُطُر القصيدة ونسقيّتها وإيقاعها.

لقد أخذت هــذه المباحث تشــقّق الأبواب وتكثِّرها وتُردّد صورهــا منفصلة عن بعضها بعضا، ووجدت في كلِّ صيغةٍ فيها شــيئا من الغرابة مُحسِّنا بديعيّا، وأطلقت عليه اسما من الأسماء، ما أحال الكلام في البديع ومحسّناته إلى صورةٍ غثّة أفقدَتْه حيويّته. وهكذا درس متأخِّــرو البلاغة وجــوه الأدب الفنّية خارج ما ابْتُكِــرت من أجلــه عند ســابقيهم؛ فكان ذلك إيذانا بنهاية مرحلــة خصيبة من ابتكار العقل العارف والمخيِّلة الُملْهمة، وتجفيفا لمنابع الإيقاع وتشهّياته الثَّرة، وعطبا بالغا لإمكان قراءته وتأويله. وهل الإيقاع غير ذلك الخيط الرفيع، العابر واللامرئيّ والمتعدّد، الذي كان يشدُّ العروضَ والمحسِّنات الصوتية ووجوه البديع بعضهــا ببعض، بقدر مــا كان يُطلق المعاني والصور في نسيج الكتابة.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom