Al-Quds Al-Arabi

أسطورة دوستويفسكي... هوية تمجّد الإنسانية

- ٭ شاعر وكاتب مغربي

«إنني أحبّ الإنســاني­ة، غير أن هناك شــيئا في نفســي يدهشــني: كلما ازداد حبي للإنســاني­ة جملة واحدة، نقص حبي للبشــر أفرادا... إنه ليتفق لي كثيــرا أثناء اندفاعي في الأحلام أن تستبدّ بي حماسة شــديدة ورغبة عارمة جامحة في خدمة الإنســاني­ة، حتى قد ارتضي أن أصلب في ســبيله إذا بدا هذا ضروريا في لحظة من اللحظات. ومع ذلك لو أريد لي أن أعيش يومين متتاليين في غرفة واحدة مع إنســان، لما اســتطعت أن احتمل ذلك، إنني أعرف هذا بتجربة، فمتى وجدت نفسي على صلة وثيقة بإنسان آخر أحسست بأن شخصيته تصدم ذاتي وتجور على حريتي، إنني قادر في مدى أربع وعشرين ساعة أن أكره أحسن إنسان. فهذا في نظري يصبح إنســانا لا يطاق لأنه مسرف في البطء في تناوله الطعام على المائدة، وهذا يصبح في نظري إنسانا لا يطاق لأنه مصاب بالزكام، فهــو لا ينفك يتمخط، إنني أصبح عدوا للبشــر متى اقتربت منهم ... ولكنني لاحظت في كل مرة أنني كلما ازددت كرها للبشــر أفرادا، ازدادت حرارة حبي للإنسانية جملة». (من رواية الفقراء(.

لعلّه من الإجحاف والجور بمكان، اختزال عالمية الأدب الروسي في شخص فيودور دستويفسكي )1821ـ1881،) علــى الرغم من الأفضــال التي يحوزها فــي هذا المجال، كون أعمالــه الروائية، تحديدا، علاوة عــن كونه عاش قاصا وصحافيا وفيلســوفا، لاقت رواجا كبيرا وتجاوبا بديعا من لدن كثيرين وفئــات عمرية مختلفة، داخل وخارج روســيا، وترجمت إلى ألسن عديدة، أزيد من170 لغة، حسب المصادر التاريخية والأدبية التي خاضت في سيرته ومنجزه، لكن يبقى التســاؤل ملحا، ومستحوذا على أذهان عشاق هذا الكاتب الذي حيّر لغزه كلّ من عرفه أو سمع عنه، قراء ونقادا وأصدقاء وأعداء على حد سواء: ما هي المعطيات التي أهّلته لهذه الكاريزما؟ معطيات لم يتلقّفها دستويفســك­ي، هدايا من الســماء، بقدر ما تضعنا إزاء وجه متعدد تــدرّج في مراتب النضال الوجودي والكتابي المرير طويلا، قبل أن يتســّنى له من الشهرة والانتشار والعالمية.

ضريبة الانتماء السياسي

تعــدّ روايــة «الفقــراء» العمل الروائي الباكورة الذي سوف تأخذ معه ملامح نبوغ دستويفسكي في التشــكّل، ما جعله يضمن سريعا، مكانتــه وتميّــزه داخل الوســط الأدبــي في ســانت بطرســبرغ، ليشبّ بعدها عن الطوق، ويصبح عــاري الميــول الأيديولوج­يــة، مكشــوفه تماما، بحيث ســينضم لرابطــة «بيتراشيفسـ­ـكي» التي تنشــط بشــكل ســري، بوصفها مشتلا للأفكار الاشتراكية المستقاة مــن الكتــب والمراجــع الممنوعة والمتّهمة بمعارضة ومناهضة نظام القياصــرة فــي الحكــم ، المكرّس لشــتى أشــكال الطبقيــة والقمع السياســي والاضطهــا­د. جريرة عرّضتــه للســجن أربع ســنوات نافذة مع الأعمال الشــاقة، ذيلتها ســتّ ســنوات أخرى في التجنيد الإجباري خارج روســيا، بعد أن تمّ إلغــاء قــرار إدانتــه بالخيانة الوطنية، الموجب لحكــم الإعدام، وهكــذا أثرت كل تلــك التجارب ما يمكن أن تســتثيره ســياط الجلد السياســي، جســديا ووجدانيا، وســكبت من حرارة صدقها وعمق فلسفتها، في روح أدبياته، إلى أن رست به ضمن أفلاك محاكية لعالم سحري، قد لا يصنعه سوى مخيال مبــدع وجــودي مثلــه، يقف في المنطقة الوسطى، ما بين العقليتين الملحدة والأرثوذكس­ية.

معادلات الأنثوي

مــع عمالقة الأدب ورواده، وهم يبلورونه رســالة عالمية، عابرة للحدود، متجــاوزة لفوارق الجغرافيا واللغة والدين، لا حديث عمّا يخلّدونه في كتبهم على تنوّع هويتها التعبيرية وأجناســيت­ها، في غيــاب الأنثــى كطرف وازن لا تســتقيم المعادلــة الإنســاني­ة إلاّ بتجلياتــه وبحضــوره الرّاجح في ميــزان النوعين. والأكيد أن الأنثى والجة في هذه الرؤية، في انتصارها لإنســانية الكائن، بدرجة أولــى. نجده وقد جرّب عيّنات من النساء، مرارا وتكرارا، سواء داخل الزواج كرباط مقدس، أو خارج حدوده، مثلما يروي أثره، وكيف أنّه لثلاث مرات ذاق كأس الحبّ، مع أرملة صديقه ماريا إيســايفا، التي عاشرها كحليلة سبع ســنوات لتفرّق بينها يد الرّدى أخيرا، لكنها ســتحضر وبكامــل رمزيتها في مجمل فصــول روايته الشــهيرة «الجريمة والعقــاب». وفي محطة فعليــة ثانية، الشــابة المزاجية أبوليناريا سوســلوفا التي رفضت عرض زواجه بها، مؤثرة خيار الارتباط بعشــيقها الإسباني، كون أن قــرارا مصيريا كهذا، لا يمكن أن يبنــى على لحظة إعجاب وارتجال عاطفي هو إلــى المبدع في رمزيته أقــرب، منه إلى دستويفســك­ي كشــخصية حقيقية وككائن بشحمه ولحمه يعشــق ويتنفس وينطبق عليه ما يســري على باقي البشر. كي تترك هذه الأنثى الطائشــة أثرا فردوســيا في نفســية هذا الكاتب العبقري، الذي سيســتثمر تجربة فشــله معها، تلك النافــرة، في رواية «الأبله» مثلمــا هو معروف. فالمحطة النهائية مع زوجته الثانية غريغوريفنا ســنيتيكين­ا ومن ثم تتمة القصة القائلة بإنجابه منها وإسعاده بجملة من مواقفها البطولية لصالحه ضد انقطاع العمر به وإلمام الضائقة المالية بــه وانتهاء المطاف بــه مقامرا ومدمنا، تمامــا كما تورد ذلك طقوس كثيرة من روايته «الجريمة والعقاب.»

عقيدة الشكّ

إن ســيرته ونضالــه حياتيــا وإبداعيا، نفســيا ودينيا وفلســفيا ووجوديا، مهما تغنّى بالمذهب المادي وتصالح معه في الكثيــر من الأحيان، لــم يك ليخلو بالكامــل من حنيفية بمعنــى من المعانــي، تنحاز لصــفّ ما هو إنســاني صرف، مســوّق لثقافة التســامح والتعايش ونبذ الفساد والحروب ولغــة الدم والخراب، وتبــدو رواية «الإخــوة كارامازوف» المفتية بأيقونة مــن الوصايا والتعاليم المذبذبة ما بين ضفتي الإيمــان والارتياب الفلســفي، انفتاحا على فعــل أو تجربة حرث المســافة البينية، كرّا وفرّا، جيئة وذهابا، كي تُستقطر، بالتالــي، تلكم العصارة التي اســمها المنجز الروائي الخالد، لدستويفسكي، احتفاء بحقول إنسانية أولى وأعمق وأشمل، تمور فــي أدغالها وتتماوج الأســئلة الوجودية والنفســية والدينية الكثيرة.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom