Al-Quds Al-Arabi

ما معنى أن تستضيف كاتبا؟

- ٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

يبــدأ موســم الإصــدارا­ت الجديدة، مع موســم الفاكهــة، ونقرأ عن معارض الكتــب التي تنظم تباعا في العواصم العربية، لنكتشف تفاوت نسب القراءة فيها. ســنة بعد سنة، تثمر دور النشر بكثرة، وتخرج أسماء جديدة للمشهد الأدبي، محاولة أن تكون أنيقة ما اســتطاعت. إنها إشارة جيدة إلى أن مواسم الزرع كانت ناجحة.

بعض الكتــاب يطيرون بين هــذه المعارض تباعا أيضــا، يســجلون حضورهــم، ويوقّعــون كتبهم، ويشــاركون في فعاليــات ثقافية متنوعــة، يفعلون ذلك وكأنهم أوراق خريفية تزين بها الرياح الشوارع والسّــاحات. بعــض الأماكــن تبدو أكثــر جمالا في الخريف، والســر كله في تلك الحلّة الخريفية.. هكذا هي صالونات الكتاب، ما يزينها أكثر هم هؤلاء الكتاب الذين تحملهم رياح الأدب، لكن ألا يكفي الكتاب ليقدم كاتبه؟ هل يحتاج الكتاب لكاتبــه؟ أم العكس؟ تبدو المعادلــة غريبة أمــام قدرة الإبداع اللغــوي، بل إنّها تزداد غموضا أحيانا، فاللغة أكثر وســائل التواصل قدرة على شــرح مكنونات الذات، فمــا الذي يجعلها غطــاء يخفي شــخصية الكاتــب، أو ينســج معالم مختلفة لشــخصيته، أو يأخذ معنى النّص بعيدا عن معناه المقصود؟ هل اللغة كائن هلامي قابل للتشــكيل وإعادة التشكيل؟ أمام التعدد اللغوي، الذي نمارسه ولا ننتبه لوجوده، هل ندرك فعلا ميكانيزمات تشكل اللغــة؟ فنحن في النهايــة نتحدّث بلغــات هجينة، متكوّنة من تلاقح الألســن، الفصيح منها، والأعجم، الأصلي والدخيل، فاللغة المحكية ليســت ثابتة، إنها متحرّكة، وتلك الحركة التي تســكنها هي التي تصنع تجدّدها، لكــن المثير يكمــن في كونهــا تذهب بعيدا بالمعنى، رغم ارتباطها بســياق قصصي واضح، فهل لهذا الســبب يحتاج القارئ لكاتبه؟ لماذا يريده وجها لوجه، ملموســا، يصافحه، ويكلمــه، ويحصل على توقيعه، ويناقشــه في مروياتــه ويجادله في المتون والمقدمات والنهايات؟

إن إقصاء الكاتب من نصّه يبــدو مرتبطا بنظرية «غبية» مع اعتذاراتي لمناصريها، فقتل الكاتب جريمة قد ترمي بالنص في قبر أبــدي، كون النص أهم تركة للكاتب بعد موتــه الحقيقي، فكيف لنا أن نتعامل معه كتركة وهو لا يزال حيّا. ســيقال الكاتب مثل الرسّام، والنّحــات والمهندس، حــن ينهي إبداعه، يســلمه للمتلقــي وينتهي دوره هنــا، وأنا أمام هــذا المعطى النظري، أرى جانبا آخر يختبئ في الكاتب، ويحتاج لتوضيــح، تماما كالرّســام الذي لا يفهــم أحد مزيج ألوانه وضربات ريشته، فيموت فقيرا معدما، إلى أن تلامسه اللغة الكافية التي تشرحه وترفع من قيمته، والشــيء نفســه يحدث مع المنحوتــا­ت التي بقيت واقفة لمئات الســنين، حتى طالهــا الخطاب المتطرف، فشــرّع لهدمها، والمصائر البائسة نفسها حلّت ببيوت تاريخية، خرجت عن الســيّاق اللغوي الذي يحميها، فباتت في خبر كان. بيوت لعظماء التاريخ هدّمت في العالم المتخلف والمختل الذي نعيش فيه، لأنها أدخلت ضمن «تركة الميت» التي لا حاجة لنا بها، وتم إقصاؤها من المضمون اللغوي الواعي.

إن التعبيــر اللغوي هو أقوى وأهــم من أي إبداع آخر، رغــم حاجتنا لكل أنــواع الإبــداع، لكن أيضا هناك ســلوك الكاتب، الذي قد يرفع من أدبه، في تلك اللحظات المهمة التي يجلس فيها أمام جمهوره، ويقدّم نفســه، فاتحا حوارا بينه وبين قرائه. تلك اللحظات التي قد لن تتجاوز ســاعة أو ساعة ونصف الساعة، قد تختزل مصير الكاتب، ونصّه، وأفكاره، وقد تضعه على خشــبة مضيئة، وقد تغلق عليه بستائر سميكة إلــى الأبد. ولعلّ فــي هذا الفعل الخطير، ما يكشــف أهميــة ثنائية الزمــن واللغة المكثفــة لإيجاد مفاتيح التسويق لأي عمل أدبي، فهو يحتاج لوقت جد قصير، ولخطاب مختصر، يحمل رسالة تفهمها الأغلبية، وفي الوقت نفسه تحث على اقتناء الكتاب.

هذا ما يجعل القــارئ يحتاج لكاتبــه، وكأنّه في قرارة نفســه يدرك شِــراك اللغة القابلــة للتأويل، والتحويــر، ويحتاجــه الكاتــب، مخافــة أن يكون ضحية القراءة الخاطئة له، فقد أثبتت هذه اللقاءات مفعولها الإيجابي، بتقريــب صورة الكاتب الحقيقية مــن قارئه، هذا غيــر أهمية هذه اللقاءات المباشــرة للنّاشــر، لأنّها تحسّــن من نســبة المبيعات وتسوّق الكتاب بشــكل أفضل، بالإضافة إلــى صنع احتفالية بالنتــاج الأدبــي، رغم رفــض البعض، وتشــجيع البعــض الآخر لها. هذا السّــفر الذي يشــبه رحلات الطيور المهاجرة إلى الأراضــي الدافئة، هو بحث عن دفء القارئ، فلا قيمــة للكاتب بدون قارئه، حتى في الفضــاء الأزرق الوهمي، الافتراضــ­ي، فقد خُلِق هذا الفضاء للمجموعات المتشابهة، وللأفراد الذين نفتهم عوالمهم إلى قلاع الاغتراب القاتل، حتى وهم محاطون بعائلاتهــ­م وأهاليهم، أولئك الذيــن عانوا من وحدة قاتلة، بســبب لغتهم وأفكارهم المختلفــة. وقد أثبتت مواقع التّواصــل الاجتماعي أنّها قــادرة على إيجاد منصّة جامعة علــى الواقع، هي فــي الحقيقة منصّة مُبهِجة، تُقصي الاكتئاب الفردي الذي يصيب الكاتب والقارئ معا، باجتماعهما، واجتماع الشبيه بالشبيه في فضاء الكاتب الذي صنع فضاء مشــتركا لهما، بدأ بسرد حكاية، وانتهى ببناء شــبكة علاقات حقيقية، فهل يمكن أن نقف اليوم ضد هذه الطقوس المنتشــرة في العالم؟

إن إقصاء أي كاتب من برامج اللقاءات المباشرة مع قرائه، هو العقــاب الجديد الذي تنزله بعض الأنظمة بالكتــاب المزعجين، وضعــه خارج مجــال الرؤية، وتغييبه عن تلــك الاحتفاليا­ت رســالة لا جدال فيها على أنّه غير مرغوب فيه، وعلى أنّ الهيئات التنظيمية تريده في العتمة، ليبقى خطابه مطموسا. وهذا صراع آخر غير مرئي يعيشه بعض الكُتّاب مع كتبهم، أمّا تلك النظريّــة التي تقول إن الكتاب يشــق طريقه وحده، فهي نظرية مشــكوك في صحّتها، لقــد احتاج الأدب دائما للصحافة لتُعلِم به، وللنّقد ليســتمد شــرعيته الأكاديمية، ولنسبة كبيرة من القرّاء لإحداث التغيير، وترك بصمة في العقل والوعي.

هذه بعض الإجابات عن ســؤالنا، لماذا تستضيف كاتبا؟

إنّه حق من حقوقه، فهو ليس سجين معتكفه، حيث يجبر نفســه على الكتابة، ومتى مــا أنهى مخطوطه قذف به خارجه، ليتولّى النّاشر الاهتمام به مثل طفل مجهول الهوية تخلّى عنــه أهله! حكاية الكتاب الذي يخــرج للعلن، تبدأ بولادة هــذا الكاتب الذي تعجنه الظروف، وتخبزه، وتنتهي حــن يقف مع منتوجه، ليســمع رأي الناس فيه، فيصحح ويضيف، ويعقِّب، إنّه تاريــخ بأكمله، لا يمكننــا إهماله، أو تناســيه، ولا يمكننــا احتكار المنصّات كلها للأســماء نفســها. وإن كان التاريــخ يروي حكايات غريبة عن شــعراء البلاط، ولاعقــي الصّواني الملكيــة، فإنه من المخجل اليوم، أن نتحدّث عن الحريّات، واحتضان المختلف، وبناء فضاء ثقافي مفتوح للجميع، فيما السياســات الانتقائية تمارس على الكتــاب، مكرِّرة ذلك التاريخ القــديم المخجل، خاصة حــن يُمارس علــى الكتاب الأدبي، الذي لا نجد بين دفتيه ما يغســل عقولنا، بل ما يوقظها ويحثها على النّقاش..

إنّ تدمير الكاتب يبدأ من ســحقه بالصمت، وتركه في الخلفية المقابلــة للأعراس التي تحــدث بدونه، حين يُســرق قارئه ويوجّه عمدا لكاتب مَرْضيٍّ عليه. أن نســتضيف كاتبا هو أن ننقذه مــن الموت البطيء الُمسلّط عليه، فلا أسوأ من قتل الكاتب حيّا، وحرمانه من قارئ.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom