Al-Quds Al-Arabi

بصيغة الماضي

- ٭*كاتب من المغرب

انطلقت الســيارة البيضاء ثم مشــينا خلفهــا بأقدامٍ متعثرة فــي طريق متربــة تنحدر إلى مقبــرة المدينة، ثم أنزلناه بحبالٍ طويلة في حفرةٍ مستطيلة ليواجه مصيره الغامض عن طيب خاطرٍ وبدون مقاومة، لقد كانت المقبرة ضاجة بالموتى وبإمكانه أن يتكلم مع الجميع متى يشــاء، أما الشاي الذي يعشــقه فقد شرب منه ما يكفي، حتى يوم القيامة. هكذا فكرت في ما بعد.

توافدت جمــوع المعزين من القريــة واجتمعت العائلة حيث كان إخوتي يبكون بحرقة مؤثرة، وشــاهدت أيضا عمي يمســح دموعــه بمنديــل أبيض ويدســه في جيب السروال قبل أن يعود ويخرج المنديل وهو الذي كان على خلافٍ دائم مع أبي لأتفه الأســباب، فيما كانت أمي تجلس صامتة بثوب الحداد وســط النســاء في غرفــة جانبية. وبــدوري كنت صامتا فوق صنــدوق الليمونادا أنظر إلى الذين يلتهمون الكســكس فــي قصعة كبيــرة متدافعين بالأكتــاف كمحاربــن حقيقيين، وكان هناك قط بشــاربٍ خفيف يلتهم الطعام المتساقط من الملاعق والأشداق.

في تلــك الليلة كان رأســي يفور بصور أبــي الذي بدأ حياته فلاحا قــرب الوادي، ثم نزح إلى المدينة ذات جفافٍ أصفر لينتقل من ورشــةٍ إلى أخرى وبــا مهنة تقريبا إلى أن تقاعــد عن التعب بأعضاء متيبســة وعروق بارزة في اليدين وبقعة أرضية فــي الضواحي لا تكفي حتى لإطعام ســتين مســكينا. ومن إنجازاته أنه تــزوج امرأة وحيدة فأخلص لها، والتي ليســت ســوى أمي. أحبهــا بطريقته الخاصة وأنجب منها أربعة ذكور وخمس إناث.

ولا شــك أن أبي كان يملك ذوقا رفيعــا بمقاييس زمانه عندما تقدم لخطبــة أمي التي تبدو جميلة في صور قديمة، وســعيدة بملابس على أحســن طراز ذلك العهد، وبوشم أزرق فــي اليديــن وأقراص فضــة متدلية علــى الصدر، أمــا منديل الرأس المنقط فيطل منه شــعر أشــقر من جهة الفودين. هذا في الوقت الذي كان جدي من جهة أمي يملك أرضا فلاحية مســتوية فتشــبث بها إلى أن تقدم به العمر فاحتال عليه خالي واســتصدر منه تفويضا فباع الأرض بالتقســيط، وفوّت علينا نحن الأحفاد فرصة العودة كي نشــم رائحة الأجداد علــى الأقل.. مات في مــا بعد جدي ورأيت خالي يشيل التراب على قبره برفش صدئ وملامح مرتاحة جدا فتألمتُ طويلا، وهو الألــم الذي مازلتُ أرعاه بنظراتٍ غاضبة كلما التقيتُ خالي.

ورثت أمي عن جدي هذه الإشــراقة وهذه الســعادة، وورثَ أبي قامة طويلة وحاجبين كثــن وغاضبين أحيانا علــى طريقة رئيس العــراق الراحل صدام حســن أثناء المحاكمة عن أشخاصٍ مجهولين، قد يكون أحدهم جدي من جهة أبي. بينما ورثتُ أنا عنهما هذه المنطقة الوسطى التي بسببها جئت إلى الشعر. أخمن ذلك.

يعود أبي في المساء فيســبقه صوته الجهوري فأغرس رأســي في درس التاريــخ الطويل وأتمتــم بكلمات غير مســموعة كأي طفلٍ تتوســم فيه العائلة الُمنقــذ الوحيد، هذا ما كنت أســمعه من حديث أمي وأبي، فأضاعف جهدي وأقاوم مزاج الأســاتذة الســيئ في تلك الفترة، الذين لم يكونــوا جميعا طيبين مــع الأولاد المنحدريــ­ن من أحزمة البؤس وســوء التغدية وروائح البالوعات. كانت مشاعر أبي غامضة ومحفوظة بأرقامٍ ســرية طوال حياته كجميع أمازيــغ الجيل القديم، إلى أن جاء اليــوم الذي كنت أدس فيه الأغراض والكتب في حقيبة كبيرة من أجل السفر إلى جنوب المغــرب، حينها كان واقفا ورائي، محنطا تماما وقد أخذت الدموع تترقرق في عينيه وعندما استدرتُ وعانقته انهار الرجل بسرعة وأخذ يبكي.

مات، أيضا، عمي موســى الذي لم أره أبــدا لأنه خرج من الحيــاة قبل أن أدخل إليها، وتحكي أمي أنه كان حافظا للقــرآن وطيب الخلق عكــس الذي رأيته يبكــي، غير أن المرض داهمه في أواسط العمر فرحل تاركا أولاده الصغار يتدبرون شــؤونهم بأنفســهم. كبروا وصــاروا موظفين حكوميين في مــدنٍ بعيدة وأصبحنا نلتقي في مناســباتٍ متباعــدة فنتبادل كلاما عابرا بــأدبٍ زائد ونفترق كركاب قطارٍ جمعتهم المقصورة وفرقتهم محطة الوصول.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom