Al-Quds Al-Arabi

«البنت اللي قالت لأ!»

- أيمن يوسف أبولبن ٭

أثناء دراســتي الثانوية وخــال العطل الصيفية كنت أعمل لدى أحد محلات تأجير أشــرطة الفيديو في منطقتي الســكنية، فمن جهة كنــت أقضي وقتا مفيــدا فــي العمــل، ومــن جهة أخــرى كنــت مولعاً بالسينما ومشاهدة الأفلام.

وذات مســاء وأثنــاء مراجعته لشــؤون الأعمال اليوميــة وقوائم الحركة على الأفــام، وبّخ صاحبُ العمل الموظفَ المســؤول عن قســم الأفــام العربية، وصــرخ في وجهه قائلاً: فيلــم )البنت اللي قالت لأ( لم يتم اســتئجاره ولو لمرة واحدة منذ أن تم شــراؤه منذ أكثر من سنة، ماذا تصنع!

هــذا الفيلــم طبعا كان مــن الأفلام الهابطــة، فنياً وشعبياً وعلى مســتوى شباك التذاكر وعلى صعيد كل المؤشرات التي قد تخطر على بالك!

نسخات متعددة من الفيلم

عبــد الرحمن )الموظف الــذي تم لومه وتوبيخه(، كان داهيــة في عمله، وقــد أثّرت هــذه الحادثة فيه كثيــراً، لذا بــادر من صبيحة اليــوم التالي إلى صنع عدة نسخ من الفيلم ووضعها خلف مكتبه مباشرة، وهو المــكان المخصص لفئة أفلام الـــ ، ثم عمد إلى تنفيذ خطة مُحكمة لترويج وتسويق الفيلم، ففي كل مــرة يأتي فيها أحد الزبائن الشــغوفين بالأفلام العربية، وبعــد أن يختار مجموعة من الأفلام المميزة وفــي اللحظة التي يهــمّ بها في المحاســبة ومغادرة المحل، يبادر إلى ســؤاله بلهجتــه المصريّة: )هو انت شــفت فيلــم البنــت اللي قالــت لأ؟( بطبيعــة الحال الســؤال بحد ذاته يوحي أن هــذا الفيلم هو نارٌ على علم، أو فيلــم من أفلام الجوائــز العالمية، خصوصاً أنه يحمل اســماً رناناً، وهنا تجتاح الشخص الواقع فــي الشــرك، مجموعة من المشــاعر المختلطــة، فهو لم يســمع بهذا الفيلــم من قبل، )إذ أنــه غير موجود على خرائــط الأعمال الفنية المعروفــة أصلاً(، ولكن من وحي الســؤال يشــعر أنه قد فاته شــيء عظيم، مــع خليط من الشــعور بالذنب، إذ كيــف يفوت على أحد أكثر المتحمســن لمتابعة الأفــام العربية فرصة مشاهدة فيلم مهم كهذا، يتحدث عنه الناس!

وفــي ظــل هــذا التأثيــر، ومــع ابتســامة خبيثة مصطنعــة من عبد الرحمن، يبــادر الزبون بالإجابة: فــي الحقيقــة لا، ثــم يضيف بشــيء من التســوّل، هــو موجود؟ وهنا بالــذات كنتُ ألمح فــي عيني عبد الرحمن نشوة الانتصار، فيجيب منتشياً، «آه طبعاً، ده أكثر فيلم عندنا نســخ منه، يا ســام إزاي تفوّت الفيلم ده !»

وهكذا زبون بعــد آخر، إلى ان تصدّر الفيلم قائمة مبيعات المحل لذلك الشــهر، حتــى أن صاحب العمل أصابته الدهشة وعبثاً حاول فهم ما جرى!

بالتأكيــد كان هنــاك بعض الزبائــن الذين عادوا باللــوم على عبد الرحمن لرداءة الفيلم، ولكن رد عبد الرحمن كان جاهزاً دائماً، )طبيعة الفيلم لم تناسب حضرتك( )غلطان والله، ده فيلم جوائز( )يا سيدي يعنــي فيلم واحد لم يعجبك من ضمن خمســة أفلام بســيطة يعنــي( )غريبة، الــكل بيمدح فــي الفيلم!(. ولكــن كل هــذا لــم يكن فــي النهايــة مهمــاً، فالأهم بالنســبة لعبد الرحمن أنه قام بتســويق أحد أســوأ الأفلام بشكل قياسي لم يسبق له مثيل. أما بالنسبة لصاحب المحل، فالأهــم كان الربح الكثير وتعويض الخســارة المؤكدة، ولا ضير من بعض الاحتجاجات البسيطة!

ذات مســاء، وبعــد أن قــلّ اهتمــام عبــد الرحمن بتســويق الفيلــم، بعد تحقيقــه أكثر مــن المتوقع من المبيعــات، دخــل أحــد الزبائن إلــى المحــل، وتوجّه بالسؤال دون تعيين هل أجد لديكم فيلم «البنت اللي قالــت لأ»؟ وبحركة لا ارادية توجهت أنظارنا جميعاً إلى عبد الرحمن، مع صدمة ودهشة حقيقتين!

لحظات الصمت هذه شحنت الأجواء، وزادت من تعلّق الزبــون بالفيلم، وبدأت نظــرات الرجاء تطفو علــى ملامــح وجهه، وبعــد صمت طويــل ومحاولة ادعــاء أنــه يبحــث عن نســخة مــن الفيلم قــال عبد الرحمن معتذراً، والله للأســف كل النســخ طالعة!، خاب أمل الزبون وخرج وهو يجر أثواب الخيبة.

ســألت عبد الرحمن موبّخاً من جهة ومستفســراً بفضول من جهــة أخرى، لماذا؟ ولكنه بــكل ثقة ابن سوق محترف أجاب: )يا عم ده زبون طيّار وانا مش حأطلّــع فيلم مطلوب في الســوق لزبــون مش دائم للمحل! الفيلم بقى عليه طلب!(.

نعــم كانــت هــذه هــي الحقيقة التــي لــم أفهمها لحظتهــا، لقد بدأت عجلة التســويق بالــدوران دون الحاجة إلى أي عمل من عبد الرحمن!

أهمية التسويق

لم أنــسَ قصة عبــد الرحمن مــع هــذا الفيلم بكل تفاصيلها رغم مضي أكثر مــن ربع قرن عليها، ليس فقــط لأنها وسّــعت مداركــي نحو أهمية التســويق والنباهــة في العمل ودراســة نفســية العميل...الخ ولكن لكونها أولاً وأخيراً درســاً في تسويق الفساد والترويج الناجح للبضائع الهابطة!

في كل يوم أشاهد أمامي عبدالرحمن وفيلم البنت اللي قالت لأ، في كل اعلامي يقوم بتلميع شــخصية فاســدة أو يدافع عن نظام دمــوي، في كل نائب عن الشعب يتاجر بصوته والأمانة التي يحملها، في كل وزير يقوم بتغيير أجندته وأقواله بعد جلوســه على كرسي الســلطة، في كل مسؤول يتولى مركزا مهما وهو لا يحمل من المؤهلات ســوى نســبه وحســبه، فــي كل موظف يمارس عمله في غش وخداع العميل ولا يراعــي أخلاقيات المهنة، فــي كل صحافي ينفذ توجيهــات عليا، رغم مخالفتها لــكل قيم الصحافة، وفي كل طُغمة سياســية فاســدة تولّــت الحكم في بلادنــا، وتحكّمــت في مصائرنــا، رغم أنهــا هابطة ورديئة وفاشلة ومُقيتة بل ومُجرمة!

عبد الرحمن، تجســيدٌ بســيطٌ ولكنه حقيقي لكل ســحّيج ومُطبّل، يمدح الســلطة مقابل المال، أو ظناً منه أنــه يمارس وطنيّته، ويخلط بــن مفهوم الوطن والسلطة الرابضة على صدر الوطن!

فيلم البنت اللي قالت لأ، هو تجسيدٌ للفساد الذي أصبح مؤسّســيّا فــي مجتمعاتنــ­ا العربيــة، بحيث أصبح ينتج نفســه بنفســه دون الحاجة للتســويق له، بل إن محاربة الفساد في عالمنا العربي أصبحت أشــبه ما تكون بمعركة «دون كيشوت» مع طواحين الهواء!

قــد تكون قصة عبد الرحمن نســخةً بريئةً مقارنة بمــا آلت اليهــا الأحوال فــي عالمنا العربــي، منذ بدء موجــة ثورات الربيع العربي وما لازمها من تغييرات فــي تكتيــكات الأنظمــة القمعيــة، لمواكبــة الأحداث وركوب موجة التأثير على المجتمعات، عبر وســائل التواصل ومنصات الاعــام المختلفة، بحيث لا يكاد يخلو يومٌ من ظهور نسخة متطورة من عبد الرحمن، في هيئة إعلامي مأجور أو سياسي فاشل أو فاسدٍ متكسّب، يمارســون نفس العمل: يطلّون برؤوسهم ناصبــن شــراكهم، محاولــن تســويق برامجهــم السياسية الفاشــلة وخططهم الاقتصادية العبثية، ووعودهــم الإصلاحيــ­ة الكاذبــة، ومســتخدمي­ن الأســلوب الجذّاب نفسه ولغة الخطاب الماكرة: )هو أنتو شفتو فيلم البنت اللي قالت لأ؟!(

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom