Al-Quds Al-Arabi

لبنان: حين «تفيض» الطوائف على بعضها البعض

- ٭ كاتب لبناني

تأجّل الاســتحقا­ق النيابي أربعة أعــوام بغية الاهتداء إلى قانــون انتخابي «يؤمّن صحّة التمثيــل»، وعاماً إضافياً بغية استيعاب الناس لهذا القانون الانتخابي الذي يعدل في التمثيل، حتى إذا حصلــت الانتخابات في آخر الأمر، أخذ كل رهط يتأوّل في الأرقام وعدد المقاعد، وســارع كل فريق للبس جبّة المنتصر.

يفتــرض الانتصــار بالتتابع حصّــة أكبر فــي الحكومة والحقائب، ليتبيّن أنه يستحيل عملياً ترجمة انتصار الجميع على الجميع. هناك من تقدّم ومن تراجع، من أقفل باب تسّرب الاعتــراض الداخلي على هيمنته ضمن طائفته، ومن لم يفلح في إقفال طائفته علــى ذاته، من ضاعف عديده دون أن يقلب الأكثرية ضمن طائفته لصالحه، ومن احتفظ بالأكثرية ضمن طائفته ولو تراجع. في آخر الأمر، حتــى في انتخابات تعمّر القانون النســبي على الصوت التفضيلي على القيد المذهبي، لا يمكن أن يخرج الجميع منها فائزاً بنفس الدرجة والوتيرة.

يبقى أنّه، إذا كان يســتحيل عمليــاً أن «ينتصر الجميع» في انتخابــات نيابية، فإنّ عــدم وجود أرضيــة للمواجهة الانتخابية الشــاملة بين المتباينين السياســيي­ن الرئيسيين، أعطى مســاحة للاسترســا­ل في الأوهام. بخلاف انتخابات 2009، لم يخض الاســتحقا­ق الأخير بــن ائتلافيين متقابلين على طول الخط. بل كانت تحالفات محكومة بتوسيع الحاصل الانتخابي فــي الدائرة المعنية، وتنافــس يركّز على تحصيل العدد الأكبر من الأصوات التفضيلية.

لم يمنع اختلاط الحابــل بالنابل في صناديق الاقتراع من فرز واقــع برلماني جديد، يكون فيه تمثيل الطائفة الشــيعية حكراً على الثنائي أمل ـ حزب الله، ويكون فيه تمثيل الطائفة الســنية متراوحاً بين أكثرية «مســتقبلية» متراجعة، و«خط وسط» يجري ترطيب علاقته بـ«المستقبل» نوعاً ما، أو لفترة، وأقلية من ستة نواب سنة حلفاء لـ«حزب الله».

أما عند المســيحيي­ن، فقــد ضاعفت «القوات» مــن كتلتها البرلمانية، لكن «التكتــل» العوني بقي الأكبــر بعدد مقاعده النيابيــة، وحافظ الجنبلاطيو­ن علــى صدارتهم بين الدروز وفي الشــطر الجنوبي من جبل لبنــان، دون أن يكون مقدّراً لهم «إقفال الطائفة » برلمانياً، كما في حال «حزب الله » و«أمل».

إذاً، تحــوّل التفــاوت في «إقفــال الطوائــف » إلى معيار أوّل لــوزن النتائج الانتخابية وترجمتهــا حكومياً. على هذا الأســاس، كانت «العقدة الدرزية»: رفض قصر بعبدا اعطاء وليد جنبلاط الحصة الوزارية الدرزية كاملة، كونه لم يحرز 100 بالمئة من المقاعد النيابية الدرزية في الانتخابات. وكانت «العقدة المســيحية»: «القــوات» ترى إلى وزنهــا البرلماني المضاعــف، والعونيــو­ن يرون إلــى احتفاظهــم بالصدارة البرلمانية المسيحية، ناهيك عن أنه «العهد الرئاسي القوي.»

أمــا «الــا ـ عقدة الشــيعية» فبــدت كنظريــة الفيض الأفلوطيني­ة: بما أنّ الثنائي الشــيعي حقــق المقاعد النيابية كاملة، بخلاف اكتفاء «تيار المســتقبل» بالأكثرية السنية، مع تراجع تمثيله البرلماني غير الســني أيضــاً، تجلّى فيضه من خلال «عقدة الســنة الموالين لحزب الله ـ النظام السوري.» «العقدة السنية» هي فيض من «اللا ـ عقدة الشيعية»، نتيجة للتفــاوت القائم بين ثنائي إجماعي ضمــن طائفته، وأكثرية متراجعة ضمن طائفتها.

هل ثمّة دور مباشــر لمنظومة السلاح في كل هذا؟ نعم ولا. «حزب الله» جماهيري لأنّه مســلّح، ومسلّح لأنه جماهيري، وهذا ما يكابر عليه خصومه. لم يحــرز الثنائي «حزب الله ـ أمل» الإجماع الانتخابي التام في الطائفة الشيعية بتصويب البنادق إلــى المقترعين، أبداً. لكن المقترعــن كانوا يقترعون لهذا السلاح، بكل مفارقة الاقتراع لسلاح في لعبة ديمقراطية. المقترعــو­ن الشــيعة، بغالبيتهــ­م، فهموا أنّــه، وتحديداً مع هذا القانون، الأقوى هو قبل كل شــيء مــن يحصّل الإجماع بالكامل، ولا يترك المجال لأي خرق. المقترعون الدروز، فهموا ذلك أيضاً، لكن تركيبة دوائرهم لا تترك المجال لتفادي الخرق تماماً. نفــس هذا المنطق عُرِضَ، وربما أكثــر من اللزوم، على المقترعين السنّة، مادة انتخابية كالخبز الحافي، لكن النتيجة جاءت مختلفة.

الاقتراع ضمانة لســاح يختلف من حيث آلية تطلّبه عن الاقتراع تحفّظاً على ســاح. لكن أيضاً نحن أمام حالة سنية أو درزية لفريــق واحد لــه أكثرية مقاعد هاتــن الطائفتين الســاحقة، في مقابل حالة مســيحية فيها أرجحية عونية مع أقلية برلمانية قواتية صاعدة، وحالة شيعية تقوم على تركيب غير ســهل أبداً، بين غلبة معقودة اللواء لـ«حزب الله»، كونه صاحب السلاح الأساسي، وكونه التيار الأكثر شعبية ضمن الطائفة، وكون رابطته عضوية بايران في لحظة الاستقطاب الاقليمي الشامل والعالي التوتر، وبين استمرار تصدّر حركة أمل لحضور الشــيعة «الدولتي» بدءاً من استمرار نبيه بري في رئاسة المجلس.

هي لحظة فيض لـ«اللا ـ عقدة» الشــيعية، على الطوائف المأزومة المناظرة لها. من خلال عقدة سنة 8 آذار، لكن أيضاً من خلال إعادة تنظيم شــكل «التفاهم» مع الرئيس عون. «حزب الله» وقف معه للرئاسة، مستنداً الى كون عون الأكثر شعبية ضمن طائفتــه، لكنه الآن يطالب بوزير للمعارضة الســنية، كونهم يشكون أقلية ضمن طائفتهم، لكن لها عددا برلمانيا.

مع هذه اللحظة، يكون المنطــق الطائفي اللبناني قد دخل أكثــر فأكثر في منطقة جديدة: فلم يعــد هذا المنطق محصورا بالتنازع بين طائفتين على حصــة، أو بالتنازع ضمن الطائفة الواحدة على من ينطق بإســمها أو يتولى مقاليد الأمور فيها، أو بالتداخل بين انشــطار طائفة بين فريقين كبيرين وتشبيك كل فريق مــع طوائف أخرى. صار هنــاك «إجماع في طائفة» يتولى الدفاع عن حصة الأقلية في الطائفة المجاورة. الأكثرية ضمن هذه الطائفة المجاورة تقول هذا ليس من شــأنك، وهو يقول لها أن هذا من شأني ما دام الإجماع لم يحصّل فيك أيتها الطائفة الجارة العزيزة. عليك بالتنوّع والتعدّدية في داخلك، وعليّ بالإجماع في داخلي وحماية التعددية عندك!

كثيــراً ما يحكى عــن «الغيض من فيض». نحــن هنا أمام «فيض من غيض»: فيض الإجماع الشــيعي على أزمة الطائفة الســنية. لكن هذا الفيض هو فرع على مشكلة اهتراء النظام السياسي والثقافي والاجتماعي بشكل عام، كما أنه فرع على تغلّب «حزب الله» على سائر القوى.

في لبنان، مشــكلتان. مشكلة إقفال النظام الباب على نفســه، ومشــكلة إقفال «الحزب» الباب على النظام، بخاصة مع الفيض الآخر.

مشــكلة القوى التي يصعب أن تكون علــى «قدر كلمتها»، ومشكلة الحزب الذي لم يعد بإمكانه أن يتخيل واقعاً إلا ذلك الذي يعود ويطابق كلمته، وينطق بما قاله أو وعد به.

مشكلة الســيارة التي حين تريد تحريكها إلى الأمام تندفع إلى الوراء، ومشــكلة السيارة التي حذفت من نفسها خاصية التراجع إلى الوراء.

مشــكلتان، مشــكلة النظام السياســي وســائر القوى «التقليدية» من ضمنه، أي كل ما عدا «حزب الله»، ومشــكلة تغلّبية «حزب الله»: أكثر من ســيطرة، وأقل من هيمنة. تغلّب مركّــب: يمرّ من خلال ثنائية «تناصفيــة» مع حركة أمل، على أساسها يتحقق الإجماع الشيعي السياسي التام، ومن خلال ثنائية شيعية ـ مسيحية عمرها اثنا عشر عاماً الآن، ويجري بصريح العبارة التذكير بأنّ فيها «قطبا» و«مقطوبا». «حزب الله» ليس البعث على رأس «الجبهة الوطنية التقدمية»، لا في علاقته مع «أمــل» ولا في علاقته مع «التيار العوني». حلفاؤه قوى أساســية، في هاتين الحالتين، وهــو لا يمارس «تغلّبه» علــى حليفيــه اللدودين فيمــا بينهما، بري وعون، بشــكل مباشــر. يمارس ذلك بواسطة مســاعدة حلفائه على التغلّب على الآخرين.

المشــكلة هي أيضاً أن الناس منقســمة بين مــن يركّز على المشــكلة الأولى «الموت السريري للسســتام»، وبين من يركّز على المشــكلة الثانية «أمــرة دولة حزب اللــه الخاصة على الدولة العامة». هذا في وقت يحتــاج فيه الحزب أكثر فأكثر، لزيادة تترســه بالنظــام اللبناني وأزمته، ولدفــع أزمة هذا النظام المتصدّع والمتردّي، قدماً إلى الأمام.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom