Al-Quds Al-Arabi

أمة بلا قادة

-

«الأمة الإسلامية إلى خير، ولكن المشكلة في القيادة»، ذلك هو شعار مجلة «الفتح» التــي كان يصدرها الإصلاحي الســوري محب الدين الخطيب، يُعبّر بها عن فقر الأمة في وجود القيادة الحقيقية التي تلتفُّ حولهــا الجماهير لســلوك طريق النهضة.

غياب القيادة الواعية الراشدة في أمتنا ليس بسبب الافتقار إلــى الأدوات والإمكانات التــي تؤهلهم لقيادة الأمة، خاصة في ظل التحــولات الاجتماعية والثقافية التــي أفرزتُ طرقًا جديدة لــإدارة الحديثة تعتمد على فريق العمل.

وليس غيــاب القيادة المنشــودة مَردُّهُ إلــى افتقار النخب إلــى الكاريزما، فكثير من حــكام الدول العربية كانوا يتمتعون بكاريزما عالية أمثال، جمال عبد الناصر وصدام حســن وغيرهمــا، ومع ذلك لم نجــد إلى الآن ذلك القائد الذي تلتف حولــه الجماهير بقناعة وصدق من أجل رفعة البلاد. لم يكن نبــوغ الزعيم النازي هتلر والتفاف الشــعب الألماني حوله بســبب الكاريزما التي كان يتمتع بها، وليس بســبب الخطب النارية التي كان بارعًا في إلقائها، الســر في هذا الالتفــاف هو قناعتهم به، بسبب تفانيه في السعي إلى سيطرة الجنس الآري الذي جعله يصطدم بالقومية اليهودية المنافســة، ذلك هو ما ينشــده كل شــعب، أن ينطلق زعيمه وقائده من مصالح الأمة وحاجتها، الشــعور بأن هــذا القائد يبذل نفسه ووقته وحياته من أجل شعبه، بعيدا عن الأطماع الشــخصية والرغبة المفضوحة في الاستئثار بالعرش أطول فترة ممكنة مهما كلّفه الأمر.

المفكر الإسلامي الدكتور محمد العبدة يقول في بعض «رسائل دروب النهضة»: «ليس من الضروري أن تكون هذه الصفوة متميزة بذكاء يفوق ذكاء الآخرين، ولكنها من النوع المرهف الإحســاس، القلِق على أوضاع الأمة.» الأمة تحتاج إلى مثــل هذا القائد الذي لا هم له ســوى مصالح الجماهير، حينئذ ســوف تتبعــه طواعية وعن قناعة لا بالسوط والعصا والعســف والإرهاب. القائد الذي يســتطيع تجســير الفجوة بينه وبين شــعبه، لا يشعرهم بأنهم عبيده أو هو مالكهم، فليس هناك كوكب للحكام وآخر للمحكومين. القائد الذي يستقوي بشعبه على كل قُوى الأرض لا الذي يستقوي بالقوى الخارجية على شعبه لإطفاء غضبهم.

القائد الذي يرى نفســه موظفًا لدى شــعبه، لا مالكًا لثرواتهم ومقدراتهم يرْتع فيه ثم يُلقي لهم بالفتات، ومع الأسف لا نجد صورًا تعبر عن ذلك إلا في الدول الغربية، التي يستقلّ فيها الزعماء والنخب، الدراجات ووسائل المواصلات العامة، أو ســيارة قديمة عادية، ويمشــون في الأسواق كبقية الناس يشــترون بخالص أموالهم، وكأنهم قد اســتفادوا من ســير الخلفاء الراشدين التي تنكّرنا لها.

القائــد الذي يُصارح شــعبه وينتهج معه أســلوب عرض الحقائق لا إخفاءها وتدليســها، لقد كان ســبب نجــاح رئيس الــوزراء البريطاني تشرشــل في قيادة الرأي العام البريطاني، إبان الحرب العالمية الثانية أنه صارح الشــعب بالحقائق فكانت حمايــة له من الحرب النفسية. القائد الذي ينطلق من الهوية الثقافية لشعبه، ويعتــز بها، ويُربي الناشــئة عليها، لا الــذي يتنكر لها وينسلخ منها ويســعى لتغريب وجه الحياة العامة في دولته والزجّ بها في شلال العولمة.

ولله در المفكر محمــد الغزالي، إذ يصــرخ في كتاب «الحق المر» قائلًا: أسمع القائد الزنجي «جارانج « يصرح بأنه إذا دخل السودان فيجب أن يخرج الإسلام، تتبعه العروبة مقهــورة مدحورة! وأســمع الرئيس اليهودي شــامير يقول للعالمين: ليســت للعــرب ذرة من حق في فلســطين! لا مكان لهم على شبر من الأرض! هذا ميراثنا كما سجلته التوراة لنا وحدنا، أما الرؤساء العرب، فلا تجري على ألســنتهم كلمة القرآن». متى نعي أن القائد المسلم صاحب المنطلقات الإسلامية، ليس ملازمًا لوصف العنصري الطائفــي الذي يلغي حــق المواطنة، الهوية الثقافية للوطن العربي هي الإسلام الذي يُمثل للمسلمين عقيدة وشريعة، ويمثل لغير المسلمين حضارة كانوا من مكوناتها الأساسية عبر العصور، وهي الفلسفة الجامعة التي كان يعيش فيها الجميع في ســام. القائد هو الذي لا يدعــي العصمة وديمومة الرأي الســديد، لكنه يؤمن بالتجربة ويرحب بالنقد البناء، ويســتفيد من الأخطاء التي كشفت عنها التجربة، ويؤمن بالقيادة الجماعية لا حكم الفرد المطلق.

القائــد هو الــذي يتعامل علــى أســاس أن زعامته مستمدة من إرادة الشــعب، ويرى أن القيادة الحقيقية هي الاســتجاب­ة لمطالب ذلــك الشــعب والتعبير عنها وإيجاد الوســائل لتحقيقها. القائد لابــد له من غايات كبرى ورســالة يعبــر عنها بوضــوح ويُوصلها إلى كل فرد وكل مؤسســة وكل مكون مجتمعــي، لقد كان حلم السياسي بســمارك الملقب بالمستشار الحديدي توحيد الولايات الألمانية وإنشاء إمبراطورية ألمانية في مواجهة التجمع السلافي والتجمع اللاتيني، فكانت تلك رسالته التي سكبها في عروق الجميع، حتى تحقق حلمه.

كأنني أسمع القارئ يســميني بالكاتبة الحالمة، لكن الحقيقة أن ما عرضته من سمات القيادة الحقيقية ليس صــورة مثالية غير قابلــة للتطبيــق. ولا أبالغ إن قلت بأنها ضمانات تشــد مُلك القادة والحكام، المراهنة على الشــعوب هي الحقيقة، والمراهنة علــى البيت الأبيض والأحمر هي الســراب. يا حكام أمتنا والله ليس لكم إلا شــعوبكم، هي التي ستحميكم وترفعكم، فقط كونوا لها كما أنكم منها، كفاكم شــقاقًا مع أبناء جلدتكم، إلى متى ســتظلون بعيدين عن أحلامهــم وتطلعاتهم؟ حافظوا على شــعوبكم تحفظ لكم عروشــكم، وإن ضيعتموها فمُلْكُكم إلى زوال. وتذكروا يوم أن سقطت غرناطة وقف ملِكها المستســلم يلقي النظرة الأخيــرة على مُلك بدّده، وحينها قالت له أمه «ابكِ كالنســاء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال»، وتلك إشارة قد يفهمها لبيب كان قد قرّر أن يُغلق عينيه وســمعه ولا ينظــر إلا لبريق عرشٍ ظنّ أن الوصول اليــه بالقتل والترويع أمر مُباح وقد ينجح، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom