Al-Quds Al-Arabi

الحرب العظمى والأدب اليباب

-

في باريس، أمــس، احتفى أكثر من 30 زعيماً عالمياً بمئوية انتهــاء الحــرب العالميــة الأولــى، أو «الحرب العظمــى» كما تُســمى أيضــاً؛ والتــي دارت بين 28 تمــوز )يوليــو( 1914 ، وحتى 11 تشــرين الثاني )أكتوبــر( 1918، بين دول الحلفاء )فرنســا، بريطانيــا، إرلنــدا، روســيا، صربيــا، بلجيــكا، مونتينيغــ­رو، اليابان، الولايات المتحــدة، رومانيا، البرتغال، الصــن، اليونان، وإيطاليا جزئيــاً...(؛ ودول المركز )ألمانيا، النمســا، المجر، الدولة العثمانية، بلغاريــا...(. الإحصائيات الموســوعي­ة تشــير إلــى مشــــاركة 60 مليــون مقاتــل مــن أوروبـــــ­ا، و10 ملايــن مــن المســتعمر­ات، ومصرع تســعة ملايين جندي وســبعة ملايين مدني على مختلف الجبهات، فضــاً عن عشــرات الوفيــات الناجمة عــن الأوبئــة. خيانة الحلفاء للعرب، والنكث بسلســلة الوعــود التي قُطعت حول الاســتقلا­ل، واتفاقية سايكس ــ بيكو بصدد تقاسم المشرق بين بريطانيا وفرنسا، ثمّ وعد بلفور البريطاني لإقامة «وطن قومــي» لليهود في فلســطين؛ كانت بين أبرز الآثــار الكارثية على شعوب الشرق الأوسط.

معروفــة، فــي المقابل، آثــار الحرب على انبعــاث حركات أدبيــة وتيارات نظرية ومــدارس فنية، فــي مختلف الميادين الإبداعيــ­ة والثقافيــ­ة؛ حتــى أنــه يمكــن ردّ حداثــة القــرن العشــرين، في مجمــل تنويعاتها، إلى مخلفــات تلك الحرب على الوجدان الإنســاني العريــض، والغربي بصفة خاصة. أمثال إزرا باونــد، ت. س. إليوت، غيــوم أبوللينير، فرناندو بيسوا، قسطنطين كفافيس، وربندرنات طاغور، في الشعر؛ وجيمس جويس، فرجينيا وولف، مارسيل بروست، روبرت موزيل، جونيشــيرو تانيزاكي، في الروايــة؛ أحدثوا نقلات كبرى في مضامين الكتابة ووظائفها، وفي لغاتها وأشكالها على قدم المســاواة. ولم تكن ولادات مدارس مثل المستقبلية والتصويرية والدادائية والســوريا­لية، وانتشــار جاذبيتها فــي مختلــف الفنــون، ســوى وجهة أخــرى لحصيلــة ذلك الاضطرام الشعوري والتعبيري الذي اعترى العالم، والغرب بصفة خاصة، حين وضعت «الحرب العظمى» أوزارها.

وليس من المبالغة القول إنه يندر أن اكتملت تجربة شاعر، خــال تلــك الحقبــة، دون أن تنعكس الحرب فــي قصائده، علــى نحــو أو آخر؛ وليــس غريبــاً، اســتطراداً، أن نعثر على عشــرات ممّن يجــوز تصنيفهم فــي خانة «شــاعر الحرب،» علــى نحو يجعل الصفة تشــمل المضمون والشــكل معاً، في جميــع اللغات التــي خاضت أممها غمار تلــك الحرب. وثمة، إلى هذا، عشــرات الدراســات المعمقــة التي تناولــت ظواهر أدب الحــرب، وشــعره على نحو خــاصّ، من زوايــا تتوقف أساســاً عند المضامــن والخصائص الفنيــة، ولكنها تذهب أبعد فتناقش الرسائل السياسية والإيديولو­جية والتعبوية التي انطوت عليها قصيدة الحرب. وإلى جانب تطوير مفهوم الرثــاء والقصيــدة/ المرثاة، فصّلت بعض الدراســات القول في الأبعاد النفسية المباشرة التي مارسها شعر الحرب على الوعــي الجَمْعي لكوارث الحرب؛ في مســتوى أوّل هو رصد انكســارات النفس البشــرية، وانســحاقا­ها أمام تغــوّل آلة الحرب، والسياســة اســتطراداً )على غرار المآل الكابوســي الــذي التقطتــه «حشــرة» فرانــز كافــكا الشــهيرة(؛ وفــي مســتوى ثانٍ يخصّ ما حاق بالإنســان المعاصــر من خراب عميــم، وضياع أعمّ )أرض إليوت الخراب واليباب، في المثال الأبرز(.

أمّا الميــدان الذي عانى من نقص فادح في التغطية النقدية والتاريخية، فقد كان شــعر المرأة خلال سنوات الحرب، على الرغــم من توفّر شــاعرات مجيدات تماماً، وكــنّ في الطليعة من حيث اقتــراح صياغات جديدة لقصيــدة الرثاء والحداد تحديــداً. يُشــار هنــا، وعلى ســبيل الأمثلة الأبــرز فقط، إلى شــارلوت مو، فيرا مــاري بريتن، مرغريت بوســتغيت كول، مــاري بــوردن، فلورنــس رايبلــي ماســن، كاثريــن تينان، وجيســي بوب، في اللغــة الإنكليزيـ­ـة؛ وإلى أدريــان بلان ــ بيريدييه، نويلــي درو، مادلين فيرنيه، هنرييت شاراســون، سيســيل بيــران، هنرييــت ســوريه، ولوســي دولارو ــــ ماردروس، في اللغة الفرنســية؛ فضلاً عن نمــاذج ألمانية ما تــزال طيّ الإغفال، للأســف. ولعــلّ الســبب الأوّل وراء هذا النقص هو الافتــراض )الجندري بامتياز، غنــيّ عن القول!( بــأنّ الحــرب مهنــة الرجــال، بــادئ ذي بــدء؛ وأنّ قصيدة الحرب هي، بالتالي، نصّ خنادق القتال وســاحات المعارك. كذلــك يُفاجأ المرء بأنّ الباحثات، القلائل كما تجب الإشــارة )ســاندرا غيلبرت ونوشــن خــان وكاثريــن رايلــي مثلاً(، اللواتي اشتغلن على دراسة شعر الحرب عند المرأة؛ انشغلن بالشــاعرا­ت البريطانيا­ت بصفة شــبه حصريــة، فتعرّضت قصيدة المرأة الفرنسية إلى غبن صريح، كما واجهت قصيدة المرأة الألمانية ما يشبه الإقصاء!

وفــي كلّ حال، كانــت الأرض اليباب، مــادة ومجازاً، هي المشهد الخشــن الناتئ الذي تصدّر قصيدة الحرب العظمى؛ الأمــر الذي يعيــد التذكير بذلك الســجال الكبير الــذي أثاره الفيلســوف الألمانــي اليهودي تيــودور أدورنــو؛ حين أطلق عبارتــه الرهيبة: «كتابة الشــعر بعد أوشــفتز أمــر بربري.» ورغــم أنــه لم يقصــد أيّ معنى حرفــي، فما بالك بالتفســير الاختزالي، الذي أشاعته القراءات التبسيطية للعبارة؛ إلا أنّ جوهــر الفكرة لم يكن يتعارض من حيــث المبدأ مع «الحكمة» التــي اســتمدها الفهم الشــعبي العريــض: أنّ الشــعر الذي أنتجته ثقافة ما قبل أوشفتز، لا يجوز )وذاك أمر بربري( أن تعيد إنتاجه ثقافة ما بعد أوشــفتز. ولهذا فإنّ عمل ريشارد شــتراوس «أربــع أغنيــات أخيرة» هــو الــذي كان في ذهن أدورنو حــن أطلق تلك العبــارة الصاعقة، قبل أيّ شــعر أو فنون كتابية أخرى.

ولعــلّ أرض إليــوت اليباب هي التي تســتوطن البال كلما استذكرت البشرية أشباح «الحرب العظمى!»

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom