Al-Quds Al-Arabi

حول عالمية الأدب العربي وقدرته على التواصل مع الثقافات الأخرى

- ٭ كاتب مغربي

■ في الفيض الدافق من أسماء الأدباء في اللغات عند مناقشــة القضايا الأدبية الكبرى، يتساءل المرء أحيانا كم من أسماء أدبائنا يذكــر معا في تلك اللغات كما تذكر أسماء الأمم الأخرى في لغتنا؟

تســاؤل كهذا يتصل بتســاؤلنا حول عالمية الأدب العربــي، إنه موضوع يطرح اليوم مجــددا علــى أنه ليــس بالفكرة الجديــدة حتمــا. قبــل الاسترســا­ل في التساؤل نحن نتذكر أن حكايات ألف ليلة وليلة، منذ أن اكتشــفها الباحث الفرنسي غالانــد ونشــر ترجمــة لها مــع ترجمة إنكليزية عنها في مطلع القرن الثامن عشر (1804( انتشرت في سنين قليلة في لغات أوروبا انتشــار النار في الهشيم. وغدت بين عشــية وضحاها جزءا أساســيا من ثقافة كل أمة. وفي أقل من قرن من الزمان كان لها أثر في مســار الفــن الروائي في العالم الغربي، قد لا تفوقــه أهمية إلا أثر التوراة وأثر الأساطير الإغريقية.

عالمية ألف ليلــة وليلة، إذن أمر مفروغ منه. ولا يهمنــا أن كنا لا نعرف بالاســم المحدد من كتب هذه الحكايات ومن جمعها ومن أضفــى عليها شــكلها النهائي. المهم أنها كتبت بالعربيــة، عن الحياة العربية وعن الشخصـــــ­ـية العربـــية مهمــــا تكــــن أصولها مستقاة من مصادر يعود بعضها إلــى أمم أخرى. شكســبير أيضا اســتقى معظم الخطــوط القصصية في مســرحياته من مصادر تعود إلى أمم غير الإنكليز. ولكن فنه فــي النهاية إنكليزي جدا بقدر ما هــو عربي جدا، الفن النهائي في ألف ليلة وليلة. ونحــن نعلم أن هذه الحكايــات مازالــت حتى اليــوم تحتل مكانتهــا الخطيــرة بــن الآداب الأخرى وستبقى كذلك.

لسنا نود هنا العودة إلى آدابنا القديمة لنرى مدى شيوعها في العالم قبل خمسة قرون أو عشــرة. فتلك مســألة تاريخية لن نتعــرض لها هنــا. ما يهمنــا هنا هو أن نرى مــدى عالمية أدبنا اليــوم وغدا، ســواء منه القديم أو الحديث. إذا تناولنا شــاعرا عراقيا معاصرا كالســياب مثلا، ولم نستطع بحث شــعره في سياق غير الســياق العربي ومقارنته بأفضل ما في الشعر العالمي، فحتما نجده شاعرا كبيرا يضاهي أليوت أو بول إيلوار، وإنه ينافس الشــعراء الغربيــن في أصالــة صوره وشمولية رموزه وفي الوحدة الموضوعية والعضوية لقصائده. ولكــن الذي يبقى هو أن الســياب ليس معروفا أو مؤثرا في الآداب الأخرى، ولا يــدرك قيمته العالمية باستثناء العرب إلا نفر من الأجانب الذين يعرفون العربية، وهم قلــة ضئيلة ليس لها بالضرورة أثر مباشــر فــي التيارات المعاصرة. فالقضية إذن في بعضها قضية معرفة اللغة العربية. كــم من غير العرب يعرفون هــذه اللغــة أو يتعلمونها؟ لماذا يتعلــم المرء لغــة غير لغته؟ فــي الأغلب لأســباب ثقافيــة أو تجارية أو لأســباب حضارية. إنهــا الرغبة في التمكن من لغة ســائدة فكرا وتواصلا، والعربية ليســت كذلك اليوم، رغم أن ثمة زهاء مئة وخمسين مليون نسمة يتكلمونها، ورغــم أهميــة الأقطــار العربية في العالم اقتصاديا واســتراتي­جيا، فإن الذي ســيغري الآخرين بتعلم اللغة غير الدبلوماسـ­ـيين الذين يتعلمونها لأغــراض سياســية، هو مــا يتحقق فيها من علــم فذ وأدب فذ مــن إبداع تكون الأمم الاخرى بحاجة إلى النهل منه. وإذا كان أملنــا ضعيفا في تعلم الآخريــن لغتنــا على نطاق واســع فــي المســتقبل المنظور، وهــو أمر لا يتحقق اليــوم إلا لثلاث أو أربع لغات أوروبية، يبقــى لنا أملنا القوي في أن ينقل بعض ما يكتــب فيها إلى اللغات الأخــرى. وهكذا نجــد أن القضية في بعضها الآخر هــي قضية ترجمة وهي مسألة أساســية ومعقدة. لو أن ألف ليلة وليلة كتبت شــعرا كلها هل كانت ســتلقى هذه الحظــوة المذهلة في كل مكان؟ طبعا لا. الشــعر في كل اللغات أصعب الفنون انصياعا للترجمة. ولما كان الشــعر أروع الفنون عند العرب، فإنه هو الذي يضيع الكثير من سحره فــي الترجمة، كمــا كان يقــول دائما الشاعر السوري أدونيس )علي أحمد سعيد اســبير( لما في صنعته البارعة من صنعــة الفن التجريــدي، أي أنه يخلو من التشخيص القصصي إلا في ما ندر.

حتى المعلقــات التي أجــاد بعض المستشــرق­ين نقلها إلــى لغتهم )كارل بروكلمان( تهشــمت الروعة فيها إلى مجرد كلمات مثقلــة بالمعاني، ولكنها مطفأة الوهج، ذبيحة الشريان. بعض الشــعر الحديث فقط، خاصة شــعر ربع القرن الأخير يحافظ على شــيء من نضارتــه في الترجمــة، لكثرة ما أخــذ يتوافر فيه من صور وأســاليب مشــتركة بينه وبــن شــعر اللغات الأوروبية. فالمرشح للإيصال إلى الآخرين عبر اللغات الأخــرى هو في الأكثر القصة والروايــة والمســرحي­ة، أي أدب النثــر. القصــة والرواية والمســرحي­ة هي اليوم أكثر الفنون الأدبية شــيوعا وانتشــارا، ومنذ أن عمت حكايات ألف ليلة وليلة، كل بلد متحضر وترجــم الكثير من الروايات الإنكليزية والفرنسية إلى اللغات الأخرى قبل مئتي سنة، ومنذ أن اكتسحت الرواية الروسية آداب العالم في الربع الأخير من القرن التاسع عشــر، أخذ الفن القصصي يبدو أنه الفن المشاع بين الأمم، وأصبحت أســماء الروائيين الكبار عالمية بصورة لم تعرف مثيلها الحضارات السابقة، ورافق ذلك أيضا شيوع المسرحية على نحو يكاد معه لا يهم الناس في أي لغة أصلية كتبت، فمسرحيات تشيخوف وســتريندب­يرغ ، وبريخت وبيرانديلو وبرناردشو ولوركا وبكيت... تبدو على تباين لغاتها جزءا من حضارة واحدة. فهذه المسرحيات وأعمال الروائيين الكبار إنما هــي أوجه متعددة لهم إنســاني واحــد، أو هموم إنســانية واحدة، كلما اســتعرضنا أســماء الأدباء الذين نشعر بأنهم عالميون لأنهم يقولون لنــا أينما كنا وبــأي لغة تحدثنا أشــياء تقلقنا وتذهلنا وتتحدى حواسنا وذهننا، نجد أنهــم في الأغلــب أوروبيــون على اعتبار أمريكا امتدادا أوروبيا. فهل العالمية محض أوروبيــة ؟ ولكن كيف اســتطاع المخرج الياباني تيكيروســا­وا، أو المخرج الهنــدي كســاتياجي­ت راي أن يقتحمــا العالــم بفنهمــا النابع مــن بلديهما؟ لأن التجربة البصرية فــي غنى عن الترجمة. لقــد تخطــت عمليــة الإيصــال الفيلمي الحواجز اللغوية. وبرهنت على روعتها. فالعالمية إذن لكيما تكتشــف كما اكتشفت في ألف ليلــة وليلة أصلا، لابد لها أولا من إيصال لغــوي قبــل أن نتعرض لمضامينهــ­ا، ومن ثم نســتخلص بعض النقاط الأساسية التي يبدو أن عالمية الأدب مشروطة بها :

أولا عالميــة الأدب لها شــقان، الشق الأول هو أن هذا الأدب يتمتع بصفات لصيقة بها وضمنية فيه، تجعله كاشــفا ومؤثرا لا بالنسبة لوطنه وحســب، بل بالنسبة إلى الجزء الأكبر من الإنســاني­ة أينما كانــت أوطانها وقــد نضيف مهما كانت أزمانها. الشق الثاني هو أن هــذا الأدب يجد فعــا من يوصله إلى اللغات الأخــرى، فيكون فيها المحك لمــدى أثــره فــي الآخرين وقدرته على الشــيوع في العالم. إن هذا الأدب إذا ما ترجم لا تكون قراءته مقصورة على الأكاديميي­ن الذين يتداولــون الكتاب المترجم بمجرد أن يهيئ لهم نافذة على فهم المجتمع الذي أنتجــه، أو العقلية التي حفزتــه، أو اللغة التي كتبت فيها. هذه الخصائص لها أهميتها، ولكنهــا لا تعطي الكتــاب المترجم إلا قيمة محدودة كثيــرا ما تكون خاضعة لتعــال ثقافي. إن الأديب الحقيقــي نقيــس جدارته فضلا عن ثقافتــه بإنســانيت­ه وغزارة ابتكاره وكونيتــه. فهو ينبغي أن يكون شــخصا ســاعد في تنوير عصــره وجاءت أعماله توســيعا لرؤية الإنسان ودفاعا عن حريته وتحقــق مســاهمات كبيــرة في إغناء رصيد البشــرية الإبداعي. والملاحظ أن العديد من الروائيين والشــعراء المغاربيين استطاعوا أن يقتحمــوا الســوق الأوروبية الثقافيــة برواياتهــ­م وقصائدهم المكتوبــة باللغة الفرنســية، مع أن مواضيعها كانــت دائما عربية محضــة. كمــا كتــب بالإنكليزي­ة الفلســطين­ي جبرا إبراهيم جبرا روايــة بلغــة شكســبير عن هــم عربي صرف. ويقــف ناقد فلســطيني يعد من الأساطين أدوارد سعيد يكتب بالإنكليزي­ة هــو أيضا فــي مقدمــة الحركــة النقدية المعاصــرة فــي الولايات المتحــدة. وإنه ليصعب حصر أســماء الذين نشروا دوما ومازالوا ينشــرون بلغات أجنبية شعرا ونقدا ورواية، إضـــــافة إلى عشــرات الذين يكتبون بها دراسات ســـــياسي­ة واجتماعية لــم يجد إلا القليل منها طريقة إلى العربية.

هل نســتطيع القول إن الأدب العربي العظيــم لا بد أن يجد يومــا من يترجمه؟ كم إنكليزيا أو فرنسيا يستطيع ترجمة أثر أدبي من اللغة العربية إلى لغته على نحو إبداعي؟ وما النتيجة في معظم الأحيان، إلا الإساءة إلى المادة المترجمة وإلى اللغة المترجم إليها معا. فضلا عن سوء الانطباع الذي تتركه عند الآخرين. ويبقى السؤال بعد هذا كله هــل عندنا من الإنتاج الأدبي ما يمكــن أن يقف على قدميــه ندا لند بين آداب العالم الأخــرى؟ لابد في النهاية من جواب حذر بعد أن اعترفنــا بأن العالمية بشــقها الثاني )الترجمة( تتيح نفســها للقصــة والرواية والمســرحي­ة، أكثر مما تتيحه لخير ما في أدبنا الشعر.

العالــم الغربــي مسفســط وســريع الملل، إنه مشــبع بكل فكرة وأســلوب ولا يثيــره إلا المدهــش والمغامــر والعميق. ولا يأخــذ أحيانــا إلا باللغــزي والمقلق والمعقد. المجيــدون مــن روائيينا العرب بدأوا يجابهون مشــكلاتنا الآنية والمزمنة المجتمعيــ­ة والسياســة بصراحة وبراعة وحرارة. وهذه أقانيم خطيرة في كل عمل فني جاد. في عصر نســمع فيه بين الحين والآخر من يقــول إن الرواية فن يحتضر، ويأتــي كل يوم من يثبت أنــه فن يتوثب حيوية. إنه فن التساؤل المأخوذ بالمصير الإنســاني، كما أن فــن الروايــة هو فن النفاذ إلى بقاع الظلام في النفس وخفايا الصــراع بين الحقيقــة والوهــم. إنه فن الأساليب التي تنهل من كل معرفة لتنتهي إلى وضع الإنســان وجها لوجه مع قدره، مع ربه وشــيطانه. وما من شك إذا أخذنا بعين الاعتبــار أن اللغة التي ابتدعت ألف ليلة وليلة ســتبتدع لا مندوحة ما لا محيد للإنســاني­ة من الانتباه إليــه. ولكن لابد مــن التأكيد أيضا على أن العالمية ليســت صفــة لأدب أمــة مــا دون الأمم الأخرى. وإلا ســقطنا في شــرك الإثنيــة المركزية والعقل المتصهــن، أو كما يقــول جورج طرابيشــي المحرقة الثقافية للعقل. المنزلة الحضارية لأي أمة تلعــب دورها وهذا لا ريب فيه. غير أن المســألة في صلبها إنما هي رهن بظهور أدباء أفراد أفذاذ من خلق مجتمعهم وتراثهــم، ولكن أيضا من خلق أنفســهم حباهــم الله القــدرة على خلق شخصيات تتجســد أمام العين مستقطبة نشــوات وهموما، ولوعات إنســانية. لا يمكن تحديدهــا إلا بها هي. من ســندباد ألف ليلة وليلة إلى هاملت شكســبير ومن راسكولنيكو­ف دوستويفسكي إلى زوربا كازانتزاكي­س وأيضا مهدي جواد وآســيا الأخضر لحيدر حيدر فــي روايته المذهلة «وليمة لأعشاب البحر » التي قدمت شهادة صارخــة وفاضحة للقمع السياســي في العراق والثورات المغــدورة في الجزائر. هي محاولات عظيمة لن تنتهي إلا بانتهاء الإنســان موضوع هــذه العالمية العزيزة المطلوبة.

 ??  ?? نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
 ??  ?? بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom