Al-Quds Al-Arabi

رواية «الجثة المُتحركة»: وقائع الانتقام من تاريخ مُشوه

-

إنها رواية مُجرمين، كل واحد من شخوصها ارتكب جرمــاً، أو نصف جرم، أو تواطأ في وقوع خطيئة، أو كان شاهداً عليها، ثم توارى خلف الصمت. هي رواية غضب وانتفاض، نشــعر كمــا لو أننا جــزء منها، أو علــى الأقــل نعــرف شــخوصها، أو صادفناهــم في حيــاة ســابقة، يتمثلون أمامنــا، ويــؤدون أدوارهم، كمــا لــو أنهم ولدوا ليعيشــوا ســادية القتل. نشــعر كمــا لــو أن صاحبهــا كتبها فــي لحظة غضــب، وهو يستعيد ماضيه وماضي جيل لا يؤمن بالحلم، كتبها وهو يشــعر بأن نهايته قــد اقتربت، لذلك ســارع في تصفية حســاباته مــع أبطال الروايــة، ورطهم في ما لا يســتطيعون تحملــه، وضعهم فــي مقابلة بعضهم بعضــاً، انتقــم منهم، واحــداً تلو الآخر، ثــم انصرف إلــى زاوية بعيدة، يتفرج عليهم، وهــم يتبادلون التهم ومشاعر الذل والخذلان.

فــي رواية «الجثــة المتحركــة» (دار الماهر، الجزائر 2018( لســماعيل محمــد، تتــراءى الجزائــر كمــا عرفناها، في الســنوات الأخيرة، بلد هش، يقف على أرض غير مستقرة، تحكمه المصالح وجماعات الظل، ويتصــارع فيه طرفان، طــرف أول مرئي، يتحرك في النــور، يُجاهر بالمعارضة والرغبة في التغيير، وطرف ثانٍ نسمع عنه ولا نراه، يدعي الدفاع عن الوطن وقيم ثورة التحرير.

يدخلان في حرب اســتنزاف نفســية، يتراشــقان التهم، ويقف موســى ـ بطل الرواية ـ بينهما. لا شيء، فــي البدايــة، يوحي بــأن موســى ســيلعب دوراً في الحراك الشــعبي، الــذي يتهيأ له البلد. «ولد موســى فــي قرية وعــاش فيها قرابة العشــر ســنوات، فرأى في ســادس ســنوات عمره جســد أبيه وهــو يفصل عــن رأســه، ورأى جثــة أمــه أشــاء جمعهــا بيديــه المرتجفتين، ودفنها». سيقضي سنوات من عمره، بين قريتــه، في جنوب البلــد، ثم في وهــران، وأخيراً في الجزائــر العاصمة. في هذا التنقل بــن مثلث مُتباعد الأضلــع، يُبصر القارئ شــيئاً مــن جغرافيا الجزائر، وتناقضاتهـ­ـا، فالانتقــا­ل بين هذه الأطــراف الثلاثة، رغم أنهــا تنتمي لبلد واحــد، فهــي تُشــبه الانتقال من بلد لآخر، لا شــيء مُتشــابه بينهــا، والفــوارق توســع المســافات عنها. موســى، الذي كبــر فــي العشــرية الســوداء، وشــاهد والديه وهمــا يُقتلان أمامه، ســيتخرج من الجامعة، غداة الربيع العربــي، وتلتحــق الجزائــر بالأحــداث، باحتشــام، فــي فتــرة لــم يكــن يؤمن فيهــا بالسياســة ولا النضــال، لكنــه ســيلتقي شــيزا، مدرســة فــي جامعة وهــران، تدفعــه إلــى الانخــراط فــي مــا خفــي عنه. شــيزا ســتعلمه الحــب، وطرائــق اكتشــاف اللــــــذ­ة، ســتفتح عينيه على أشــــــيا­ء أخرى غير الندم على طفولـــــت­ه، التي لــم يعشــها، تُحــاول مداواته لينســى مــوت والديه، تُعيــد عجنه، ثم ترســله، فــي غفلة منه، إلــى الجزائر العاصمــة، هنــاك يســتلمه عميــد الجامعــة كمواطن صالح، برتبة أســتاذ، ويوكل إليه المهمة، التي ستغير حياته، بأن يصيــر مُخبراً، ويتعقب تحركات أســتاذ مناضل يُدعى يعقوبي.

في هــذا البورتريه، الذي كتبه المؤلف عن موســى، لا شــيء جديــد، يُخبرنــا كيــف تحولت جامعــة إلى مؤسســة أمنية، لكن الشيء الأهم أنه يرصد الحالات الإنســاني­ة للشــخصية، فــي ضعفهــا ورعونتهــا، لا يصــور موســى كرجــل متــن، مكلفــاً بمهمة ســيئة الســمعة، لكنها قد ترفعه إلى مناصب عليا، بل يُحيل القارئ إلى مشــاهدة حياته الداخليــة، فهو قادم من الجنوب، بسذاجته، وقلة حيلته أمام النساء، لهذا لن يتأخر في الوقوع كوليمة ســهلة أمام أول عشيقة في الطريق: نوال، التي تقتسم معه الأحداث، في ما تبقى مــن الرواية. نوال ليســت فقــط طالبــة، تُعجب بذلك الأستاذ، الذي صــــــار مخـــــبراً، بدون أن تعـــــــل­م، بل هي أيضاً ابــــــنة عبــــــاس، الإرهابي الســـــاب­ق، الذي تعـــتقد أنه قد مات، في الجـــبل، قبل أن تعـــثر علـــيه، بالصدفة، في مستشفى أمراض عقلية. يظهر عبــاس، فــي وقت حرج مــن حيــاة ابنتــه، لا يتعرف عليهــا، بعدما أصيب بانفصام في الشــخصية، لكنه يروي لهــا جزءًا من حياتــه الدموية فــي الجبل. هنا تظهــر واحدة من النقاط المهمة في الرواية، لقد قدمت للقــارئ إرهابياً، مُتهمًا بقتل أبرياء، بدون أن تســقط في تعاطــف معه. فطــرح ثيمة الإرهاب، فــي الرواية الجزائريــ­ة، كانــت ولا تــزال واحــدة مــن القضايا، المثيرة للحساســيا­ت. كيف نكتب عــن الإرهاب بدون أن نســقط في البروباغند­ا؟ بل إن مجــرد الكتابة عن هذا الموضــوع يتضمن ترويجاً لــه، فهدف المجرم هو أن تظل آثــار الجريمة حاضرة، والكتابــة تلعب دوراً في ذلك، وقد عرف ســماعيل كيف يكتب عن إرهابي، بإســم ولكن بدون ملامح، بجسد ولكن بدون تاريخ. جــرده مــن إنســانية كمــا كان يجــرد هــذا الإرهابي الأبرياء من أرواحهم.

وبدل أن تقتصر علاقة موســى بنوال، ســيتعرف هــو أيضــاً علــى والدهــا، ومن خلالــه ســيعثر على الشــخص، الذي قتل والديه، وينتقم منه، ليجد نفسه مســجوناً في أهواء عميد الجامعة، الذي يسرف في استغلاله، مقابل أن يتستر على جريمته. جريمة أولى مهدت لجرائم أخرى، ولا ســيما عندما يصل الراوي إلــى ربيــع 2014، وما رافقه من تصاعــد الغضب، في الجزائر، بســبب تمديد عهــدة الرئيــس، حيث يكتب عــن طريقة تصفيــة الأســتاذ يعقوبي، وعــن مراقبة الأمــن للناشــطين المدنيــن، والتضييــق عليهم، وفي تلك اللحظة لن يجد موســى سبباً للفرار من تعقيدات الوضع، ســوى في تعميق علاقته العاشقة مع نوال، كما لو أنه يخبر القارئ بأن الحب هو ســفينة نوح في الزمــن الجزائري الوعــر، هو لم يكن فــي علاقة حب طبيعية معها، بــل كانت أقرب إلى العبودية الطوعية، يســتعين بحضورهــا معــه، للإفــات مــن الجماعــة التي أوكلــت له مهمة العمــل كمُخبر، ويشــرعان في البحث عن إرهابي ســابق آخر، ســيجيبهم عن سبب التحــاق والد نــوال، بالجماعــا­ت المتطرفــة، وينتهي بهما المطاف، بالعودة، إلى مســقط رأس موسى، في جنوب البلد، للعثور على ذلك الإرهابي السابق، وحل لغــز تحول والد نوال من رجــل طبيعي إلى مجرم، ثم الخيــار الراديكالـ­ـي الأخير لموســى، بعدمــا عثر على أجوبــة عــن حياتــه المنتهكة، أن ســلم نفســه للأمن، تكفيراً عن جريمة قتل من ذبح والديه.

في «الجثة المتحركة»، نُصادف شــخوصاً بتاريخ ذاتــي، يتقاطع مع تاريخ البلد العــام، لم يفهموا كيف وصلــوا إلى ما هم فيه، ويســعون لترقيــع الفجوات، بالعنــف تــارة، وبالحب تــارة أخــرى، فالعلاقة بين موسى ونوال، التي تنتهي في السجن، وزياراتها له، هي مختصر سيرة الجزائر المعاصرة، حب مضطرب، بــا وجه، وتاريخ مشــوه، نهرول إليه، مــع علمنا أنه يقودنا إلى مصائر ترجيكوميدي­ة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom