Al-Quds Al-Arabi

الشعر والهامشي... نظر في شعرية اليومي

-

الشــعر كثــرة وجمــع وليــس مفــردا. أي إنه مقترحــات عديــدة، إذ لا يمكــن فــي أي حال من الأحــوال، حصره فــي مجرد القصيــدة بمعناها التقليدي. ومن جملة هذه الأراضي المستباحة مع شــعر الحداثة وما بعده، نجد قصيدة النثر، التي انفتحت بقصــد بليغ علــى الهامشــي واليومي، تواصلا وتفاصــا. ذاك الهامش الــذي تبين في مــا بعد أنه هــو الذي يحرك حياتنــا عكس ما كنا نتوهــم. فالتفاصيل والجزئيات والأشــياء التي تبدو صغيــرة، هي التي تحــرك القضايا الكبرى كما تقول النظريات الفلســفية مــا بعد الحداثية. علما أن الحكمة الصينية قد انتبهت إلى هذا الأمر منذ زمن طويل حينما قالت، بأن رفرفة الفراشات تحدث أعاصير في المحيطات وأعالي البحار.

قصيدة النثر وجدت في الســرد اليومي كدال إيقاعــي جديد، بديــا حقيقيا لمعيــار الوزن الذي لــم يعد يســتجيب لتعقيــدات الحيــاة المعاصرة. لقد صــارت مقولــة قدامــة بن جعفــر وصاحب «العمــدة» ابــن رشــيق وغيرهمــا مــن النقــاد والبلاغيــ­ن واللغويين، ممن ســاروا على الدرب ذاته يفصلون بين الشــعر والقرآن، «الشعر كلام مــوزون ومقفــى.. «، قلــت لقد صــارت الآن، في وقتنــا الراهن، مجرد أثر أو شــاهد علــى غنائية حياة عربية صحراوية، كانت في زمن مضى. أما وقــد تحولت حياتنا المعاصرة إلى حياة ســردية بامتيــاز، فإن الــوزن لم يعد هو المحدد الأســاس لشــعرية النص حتى لا أقول القصيدة باعتبارها هــي أيضا جــزءا من هــذا الأثر، بل هنــاك دوال أخرى أضحت تحقق للنص الشــعري شــعريته، لعــل من بينها الإيقــاع بتعبير هنري ميشــونيك، الــذي اعتبــره أكبر الــدوال، وهذا موضــوع فيه نقاش، وكذا التخييل، وغيرهما من الدوال.

شــعرية الحيــاة اليوميــة المعيشــة تأسســت مبكــرا مــع شــعراء رفضــوا فكــرة التمييــز بين مواضيــع نافعــة للشــعر وأخــرى غيــر نافعــة، وبين لغــة صالحة وأخرى غير كذلك، كالشــاعر السوري محمد الماغوط، وشعراء جماعة كركوك فــي العــراق أذكر منهم ســركون بولــص وجان دمــو وفاضل العــزاوي، وشــعراء رواد رفضوا التخنــدق فــي التصنيفــا­ت التجييلية كالشــاعر العراقي ســعدي يوســف. إن هــذا الفتح، أقصد اســتباحة قصيد النثر لأرض الشعر، جعل الأفق يتسع وينشرح أمام شعراء شباب جعلوا الكتابة الشــعرية تتطور في البلاد العربية بشــكل لافت بفعل افتتانهــم الكبير باليومي، ما جعل الفاعلية النقديــة العربية تلتفت إلى هــذا المجرى الجديد، الــذي انحرف إليه نهر الشــعر، فــكان أن خصته بتوصيــف نقــدي جديد مــازال مثار نقــاش إلى يومنا هذا، ألا و هو الحساسية الجديدة.

ونتصــور أن مــن ضمن مــا تتميز به شــعرية اليومي في جل ما كتب من داخل هذه التجربة، أو على الأقل في ما تيسرت لنا قراءته، الخصائص الآتيــة: البســاطة والســرد، أي ســرد الحيــاة وتفاصيلها، والاقتصاد والإيجاز في التعبير بما هو صدى للحظة الحياتية وصخبها العابر عبور وميض لامع، والمفارقة التي من شــأنها أن تخلق الدهشة لدى القارئ.

المفارقة هنا بمــا هي انقطاع وتوتر في العلاقة بين عناصــر هذه التفاصيل أخذا بنظر روني توم في النظرية الكارثية لديه.

إن اشــتغال شــعراء الحساســية الجديــدة وكــذا انشــغالهم بالتفاصيــ­ل اليوميــة، جعــل الكتابة الشــعرية تعيــد رتق الصلــة بالحياة في جزئياتها الصغيرة، من داخــل بناء فني جمالي جديد. بناء عار من المســاحيق الباهرة والقضايا الكبرى لفائدة البســاطة واللاألفة. البساطة هنا لا بمعنى التسطيح أو الإيضاح الفج، وإنما بقصد الغوص الأركيولوج­ي في الحياة اليومية بنعومة اللغــة المحكيــة وســردية الواقع، أليس الســطح هــو الأكثــر عمقــا كمــا ردد الفيلســوف الألماني فريديريك نيتشــه ذات فكرة؟ وجدير بالإشــارة إلى أن انفتاح شــعراء الحساســية الجديدة على أفق اليومي والهامشــي والعارض، جعل الكتابة لديهــم تنحو منحــى مختلفــا تماما عمــا درجت عليه عادة الشــعر العربي، لدرجــة أنه أصبح من العســير تصنيف هذا النمط الشعري الجديد في نوع محدد، لأنه دائم الانفلات ومنفتح باستمرار علــى احتمــالات ومفاجــآت لا تنقطــع، إذ اكتفى البعــض بنعتهــا بـ «القصيدة اليوميــة » والبعض الآخــر وصفهــا بـ «قصيدة التفاصيــل »، وإن كنا نختلــف مــع هــذا التوصيــف - أي القصيــدةج­ملة وتفصيــا. فالقصيدة مفهــوم قائم بذاته، ومقترح شعري آخر في سياق آخر. وهذه حكاية أخرى لا يســع المقام للخــوض فيها. وغير خاف أن شــعرية اليومي، تســعى جاهدة إلى اختراق المألوف في الحياة اليوميــة، بغاية هدمه وإعادة خلقــه من جديــد، لا بهــدف تكراره كمــا قد يظن البعــض. والخلــق ها هنــا لا يتحقــق إلا بتغريب هــذا الواقع، وإضفــاء اللاألفة علــى المألوف فيه لدرجة أنه يبدو غريبا على القارئ، على الرغم من أنه يصادفه صباح مســاء. والسر في هذا العماء هو فعــل التعمية الــذي يقوم به الشــاعر باللغة، وقلب نظم الأشــياء بما يخلق الدهشــة والغرابة فــي آن لدى القارئ. والشــاعر وهو يولج اليومي في الشــعري، يصبح مثل ذاك الأعمى الذي يقود البصيــر فــي المجهول، نقــا عن حكاية الشــاعر العباسي الضرير بشار بن برد.

إن شعرية اليومي لدى شعراء ما بعد الحداثة، جعلت من الواقع المريض )القبيح( مادة تخييلية خصبــة مــن أجــل اســتخلاص اللامألــو­ف من المألوف المعيش.

اســتخلاص الجمال من قبح الواقع، رغما عن أنفه مثلما فعل الفنان الشــهير فانسان فان غوغ عندما رســم أحذية بالية قبيحــة المنظر وتحولت بفعل رؤيتــه )عينيه( الجمالية التي أضفت عليها جمالية وجاذبية، إلى أحذية مشهورة. أليس في القبح، إذن، جمالية كما لوح الفيلسوف الفرنسي الفينومينو­لوجــي ميرلوبونتي مــن قبل؟ أليس، عطفا على ما سبق، في عودة الشعر إلى الأشياء الصغيــرة كما هــي في الواقــع، بقبحــه أحيانا، هي عــودة إلى الجمال وإلى الحيــاة الأصلية في التجربة الإنسانية؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom