Al-Quds Al-Arabi

«من فات قديمه تاه»

- *كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

الزمــن دوار، تنقلب فيــه المواقف وتتغيــر فيــه المطالب، فقبــل عقود غير بعيــدة، كان من أهــداف الثورة الفلسطينية الأساســية، تحرير كامل التراب الفلســطين­ي من النهر إلى البحر، من براثن العدو الصهيونــي وإقامة الدولة الديمقراطي­ــة، التي يعيش فيه اليهود إن رغبوا كمواطنــن، بينما كان الكيان الصهيوني المغتصب يستجدينا، للاعتراف بوجوده.

ودارت الأيــام فارتفع ســقف مطالبهــم وطموحاتهم، وانخفض إلــى الحضيض ســقف مطالبنــا وطموحاتنا وصغرت أحلامنا، فأصبح هذا الكيان الصهيوني، هو الذي يتحدث عن «دولــة يهودية ديمقراطية» علــى كل التراب الفلســطين­ي من النهر إلى البحر، لا حقوق للفلســطين­يين فيها، بينما رحنا نســتجدي هذا الكيــان للاعتراف بحقنا في إقامة دولة فلسطينية مســتقلة ضمن حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 أي على أقل من 22 % من فلسطين التاريخية.

كنا نحــن من يرفــض الحديث إلــى قادة هــذا العدو والجلــوس معهم إلى طاولــة واحدة، فأصبحــوا هم من يرفضون ذلك، كانوا يلهثون وراء التطبيع معنا، فأصبحنا نحن من يهــرول للتطبيع معهم، كانــت أقصى أماني قادة العدو الصهيوني الظهور في صورة تجمعهم مع مسؤولين عرب، فأصبح المسؤولون العرب هم من يتمنى الظهور في صور تجمعهم مع المسؤولين الإسرائيلي­ين.

هذا الانقلاب لــم يأت من فراغ، بل جاء جراء سلســلة من السياســات الخاطئة، والتراجعــ­ات والأغلاط القاتلة العديــدة سياســيا وعســكريا، التي ارتكبــت على وجه الخصــوص خلال العقــود الثلاثة الماضية، أو ما تســمى إجحافا بسنوات الســام. وانطلاقا من ذلك فإنه لا بد أن تكون هناك مراجعة كاملة للنهج والسياســة الفلسطينية، خلال ثلث القرن الماضــي وحتى الآن. مراجعــة تبدأ أولا بالتراجــع عــن الخطأ التاريخــي المتمثل بتوقيــع اتفاق أوســلو، والاعتراف بدولة الاحتلال عشــية التوقيع على الاتفاق، الذي تخلــت عنه بالكامل دولة الاحتلال بالأقوال والأفعال، بينما تمســكنا نحــن فيه بالأفعــال لا الأقوال حتى يومنا هــذا، رغم الكثير من القــرارات التي اتخذتها المجالس الوطنية والمركزية لمنظمــة التحرير. هذا الاتفاق ومــا رافقه من مصطلحــات أضيفت إلى قواميســنا، رغم الاعتراف بأنه فتح الأبواب لعــودة أكثر من نصف مليون فلســطيني إلى الضفة الغربية وقطاع غزة وبضع عشرات أو مئات إلــى مناطــق 1948. فإنه في الوقت نفســه، زاد عدد المســتوطن­ين بأكثر من نصف مليون، منذ توقيعه في سبتمبر/أيلول1993 وحتى يومنا هذا. ليس هذا فحسب بل سمح هذا الاتفاق لقطعان المســتوطن­ين بالاستئساد علينا فأصبحوا أكثر شراسة مقارنة بأيام الانتفاضة الأولى عام 1987، ففــي انتفاضة الحجارة، لم يكونــوا يتجرأوا على المبيت في المنازل في المستوطنات، وفي الكثير من الأحيان كانوا يحتفظون بالكوفية الفلسطينية في سياراتهم تجنبا للرجم بالحجارة أو ضربهم أو اصطيادهم.

أما اليوم فانتقلوا من مرحلة الخوف والدفاع إلى مرحلة الهجوم والاعتداء، من مرحلة الاستعداد للرحيل والعودة إلى الداخل الفلســطين­ي، إلى مرحلة ترهيب الفلسطينيي­ن في القرى المجاورة لمســتوطنا­تهم والاعتداء عليهم بدنيا، وتدمير ممتلكاتهم ومصادر رزقهــم لدفعهم لبيع أراضيهم ومنازلهــم والرحيــل، وأصبحــوا هــم الذيــن يرجمون الفلسطينيي­ن وســياراته­م بالحجارة، ويقومون بتجريف وشق طرق بدون أن يردعهم رادع.

ليــس العيب فــي أن نتراجع عن الخطــأ، ولكن العيب أن نمعن فيه، فلنعتبر الماضــي تجربة نتعلم من أخطائها، ونضع اســتراتيج­يات ورؤى جديدة، سياسية وعسكرية واقتصادية هجومية تعتمد بالاساس على المبادرة، بعدما كانــت أفعالنا مجرد ردود أفعــال، رؤى جديدة تنطلق من إيماننــا بقوة شــعبنا بصموده وطاقاتــه وقدراته، رؤى ترتكز بالاســاس على العــودة إلى المقاومــة، التي تكفلها لنا القوانين الدولية، وإذا أحــب البعض وصفها بالمقاومة الشــعبية فليكن، وقد اثبت شــعبنا مرارا وتكرارا، قدرته على الإبداع في وسائل المقاومة، التي جعلت العدو المترف، يدور حول نفسه، من انتفاضة الحجارة الأولى في الضفة وغزة، التي أعادت القضية الفلسطينية إلى سلمً الاولويات العربية، إلى مسيرات العودة والطائرات الورقية الحارقة والبالونات الحارقة ايضا، إلى فعاليات «الإرباك الليلي.»

شــعبنا مبدع وخلاق إذا منح الفرصــة من قيادته، ولم تضع العراقيل فــي طريقه، أتركوه يقاوم بالشــكل الذي يرتأيه مناســبا، وهو بالتأكيد عنده الحاســة السادســة والبوصلة التي تقوده دوما إلى وسائل النضال والمقاومة الأصــح والأنجع، ولا تجيروا نضالــه لصالح هذا الفصيل أو ذاك، ولتعلــو مصلحة الوطن فــوق كل المصالح. وبعد كل التنــازلا­ت التي قدمت وتخلينا عن ماضينا ووســائل نضالنــا، لم يعد لدينا شــيء نخســره، وبعــد التجربة المريرة خلال الســنوات الثلاثين الماضية، لم يعد التسول والاســتجد­اء يجديان، ولــم يعد الدعــم الدولي الكلامي الفضفاض ينفع بشــيء أكثر من تهدئة نفوســنا، بعد أن أصبحت الأطمــاع والأهداف واضحــة، وانفتحت أبواب المواجهة على مصراعيها، وكشــرت فيها الإدارة الأمريكية عن أنيابها، وانحازت بشــكل مفضــوح إلى صف الاعداء، وداســت على كل خطوطنا الحمر، من القــدس إلى قضية اللاجئين. وبناء على ذلك لا بد مــن معاملتها معاملة دولة الاحتلال، ولا بد أن تكون كل وسائل المقاومة ضدها مباحة، فهي الشريك الأساســي لدولة الاحتلال عســكريا وماليا وسياســيا، وهي التي أصبحت تخــوض حتى المعارك في المحافــل الدولية باســمها، كما حصل في مشــروع قرارها لإدانة حماس كحركة ارهابية، الذي قدمته للتصويت عليه للجمعية العامة، والذي فشل.

وفي هذا الســياق يتهم جيســون غرينبــات المبعوث الأمريكي الخاص للشــرق الأوسط، الصهيوني الذي يقود الهجوم على الفلســطين­يين بجميع أطيافهم السياســية، حمــاس بمحاولة جر المنطقــة إلى حــرب، بإطلاق مئات الصواريخ على البلدات الإسرائيلي­ة خلال جولة التصعيد الأخيرة، متعمدا النســيان أن من بدأ العدوان، رغم جهود التهدئــة التي كانت تقودها مصر، هــو دولة الاحتلال بعد انفضاح أمر قوة خاصة تابعة لوحدة المستعربين، العاملة في جنوب القطاع، والقصف الجوي الذي لجأت اليه دولة الاحتلال لتغطية انســحاب هذه القوة التي فقدت قائدها خلال المعركة وجــرح نائبه، خوفا من وقــوع أفرادها في الأسر. واستشــهد خلال العدوان الجوي 7 مقاومين. ولن نتحدث عن الاعتداءات اليومية علــى الصيادين، وكذلك التوغلات التي تمنع المزارعين من ممارسة أعمالهم،

نحــن نعلم جيدا أن تجريم حمــاس واتهامها بالإرهاب ليــس إلا الحلقة الأولى لتجــريم أي مقاومة وإلصاق تهمة الإرهاب بمجمل العمل الوطني الفلسطيني، هذا أولا.

يبــدو أن الوقاحة الأمريكية في عهــد ترامب والثالوث الصهيوني المســؤول عما يســمى تجاوزا عملية السلام، صهره جاريد كوشــنر وغرينبلات والســفير المســتوطن ديفيد فريدمان، لا تقف عند حد. وحسب مصادر إسرائيلية فــإن إدارة ترامب تمارس ضغوطا على تســع دول عربية لدعم مشــروع قرارها. وتوجه غرينبلات نفسه، بطلب في هذا السياق إلى المغرب وعُمان والبحرين والأردن والمملكة العربية الســعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة ومصر وقطر. وقال في رســالته التــي لا تخلو من التهديد المبطن إن «الدول التي تعارض الإرهاب وتدعم الاســتقرا­ر في المنطقــة، ليس لديها ســبب لمعارضة هــذا الاقتراح»، متهما الســلطة الفلســطين­ية بالنفاق لمعارضتها الاقتراح، لأن الســلطة تعتبر حماس، حســب زعمه عدواً وتفرض العقوبات عليها حسب قوله.

ويأتي طلب غرينبلات، حســب صحيفة «هآرتس» في إطار الاســترات­يجية الأوســع لإدارة ترامب في الشــرق الأوســط. فالبيت الأبيض يريــد أن يوقــف تبني الدول العربية «بشــكل تلقائي مواقف السلطة الفلسطينية في ما يخص القضية الفلسطينية»، وأن تكون مستعدة للضغط على الفلســطين­يين في حالات معينة، ما يعنــي أنه إذا ما صوتت دول عربية لصالح مشــروع القرار، أو امتنعت عن التصويت، ســيكون ذلك سابقة سيبنى عليها لاحقا، وهذا ثانيا. وثالثا وهو الأخطر، أن اســتجابة الــدول العربية لطلب غرينبــات اختبار مهم للاســترات­يجية الأمريكية، الراميــة إلى تفتيت ما تبقى من موقــف عربي موحد في ما يخص القضية الفلســطين­ية، خاصة في الأمم المتحدة، في ضوء الاســتعدا­دات الجارية لإطلاق «صفقة القرن» التي تعدها الولايات المتحدة.

وأختتم بالقــول إنه لا بد من تطبيــق قرارات المجالس الوطنية والمركزية لمنظمــة التحرير، التي تدعو إلى تعليق الاعتراف باســرائيل وقطع كل اشكال العلاقة معها، ولا بد من العودة إلى ماضينا وأن نبنى قوانا ونعززها ونصحح أوضاعنــا على هذا الأســاس. وكما يقول المثــل «من فات ماضيه تاه». وهذا حقا ما نعاني من نتائجه اليوم.

لم يعد الدعم الدولي الكلامي الفضفاض ينفع بشيء أكثر من تهدئة نفوسنا، بعد أن أصبحت الأطماع والأهداف واضحة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom