Al-Quds Al-Arabi

مرضى الأقليات أم أصحاء الأكثرية؟ لم تتخذ المجتمعات الأهلية السورية أي تعبيرات سياسية تفتيتية مذهبية، بل أكد الجميع على وحدة الكيان السوري والهوية السورية الجامعة

- *كاتب سوري

من قال - أيها الســوريون - إني قليل بينكم؟ ولماذا؟ يكاد يخنقني الجواب، حين يحشرني حشــراً في هذا الموقع الاعتباري )الطائفــي( الضيــق، رغماً عــن إرادتي ومساري وإيماني وطبيعة ثقافتي القائمة علــى حفظ كرامة الإنســان، أي إنســان، بعيــداً عن انتمائــه لأي هويــة محلية أو انحــداره منها أو من غيرهــا، من دون أن تكون له يد فيها؟ علماً أنّ هذا الضغط المعنوي الثقافي، هو الذي ضاقت به جلود أجدادنا ففاضوا على أمكنتهم وخلّدوا أسماءهم في أزمنة، ربما لم يعد يشكل حاضرنا، الذي نتجرّع أزماته بعض امتداداتها ولا تداعياتها.

لو كانت المســألة شــخصية لســكت، ولكنها مســألة وطن ومواطنة، فكيف أســكت عنها؟ وهل يحقّ لي ولأمثالي السكوت عن ذلك؟ أمام كم الأسئلة الجارحة، التي فتحتها حربنا السورية على واقعنا المعنّد، ثمة هاجــس يقلقني ويقلق كثيرين من أبناء شعبنا الســوري، ذكوراً وإناثاً، ومفاده: هل كنا نحن السوريين صانعي هذا البلاء ومروجيه، أقلية وأكثرية؟ أم كنا ضحاياه ولم نزل جاهزين لتقديم القرابين له، فكأننا لم نسعَ يوماً معاً، لنكون مواطنين مكتملي المواطنة، وأثبتنا أكثر من مرة وبالدليل الساطع، أننا لن نكــون كذلك، إلا إذا غــدت المواطنة ثقافــة للمواطنين، يتســاوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات أمام الدســتور )أبــو القوانين( الذي هو عصارة عقل المجتمــع الحيّ وتوافقاته الناظمة لشــؤونه، والحصن الحصين لنا من أي اختلالات أمنية أو اصطدامات، لا تخرجنا من دائــرة الجنون، وانفلات الغرائز والسعار المذهبي فحســب، بل هي وحدها الركيزة المتينة المادية والمعنوية للتنمية المتكاملة ومسار التقدم والتطور عامة؟

وتتفرع من هذه الأســئلة وغيرها أسئلة أبســط منها، ولكن إغفال الإجابــة عنها يتركنا فرائس للعشــوائي­ة والشــعبوي­ة والفوضــى، ونبــدد طاقات شــبابنا الهائلة والمبدعــة، بعد أن حجزتها عصور الاستبداد والديكتاتو­ريات وما تهيئ له ظلامية، تعمل على اغتصاب الشريعة والشرعية وأهلهما، وعلى إخضاع البلاد والعباد للقطع مع مسار الحضارة والتطور والنكوص بهم إلى عصر الجواري والعبيد وشــرعة الســيف بالرقاب، وإعاقة تلاقح العقول وحرمانها من كل فكــر تنويري، يقوم على جدلية الحرية/ المسؤولية ونظام الحريات وحقوق الإنسان.

ماذا يضير المواطنة والوطنية إن تعددت الطوائف والمذاهب، سواء كان أبناؤها يمارسون طقوســها وشعائرها أو يهملونها؟ وهــل يتأثر عمل المواطــن المهني أو الوظيفــي أو دوره في إطار المشــاركة الوطنية في الإعمار في السلم وفي الدفاع وقت الحرب عن وطنه وهويته؟ أولم يتساند السوريون بالسلاح والأكتاف واستشــهدو­ا في حروبهم الوطنية، بعد أن وحدهم جرح النكبة والنكســة وكل مترادفات الهزيمة، التي وجــدت في بلاغة اللغة العربية ألبســة تزيينية، تخفف من وقــع الكلمة الصادمة؟ ومع ذلك لم يقل السوري للسوري: «الطريق إلى التحرير والاستقلال والبناء، لن يمرّ إلا على أجســادكم ولن يطهّــر إلا بدمائكم؟ ولم يســبق لمبدع أن خصّ قومــه أو طائفته بإبداعــه، ولم تقتصر هواجســه وطموحه وخوفــه وقلقه علــى جماعتــه كبيرة أو صغيرة، بل كان إبداعهم خاضعاً لمعيار التشارك الكوني بالإفادة والاستفادة، حيث أي صنعة أو أي إبداع، متى خرج من يد مبدعه صار ملكاً للجميــع، وإلا لقال لنا مكتشــفو الأدوية والأمراض: هذا العلاج وهذا الدواء ملكية خاصــة لجماعتي وأتباع مذهبي أو لغتي، أو قال مكتشــفوا دوران الأرض والجاذبية والنســبية وغيرهم ذلك أيضاً؟

حينمــا كنا نقول: إن قرار التغيير في ســوريتنا بيد الأكثرية الســنية، لم نكن نأخذ الأكثرية العدديــة وحدها بعين الاعتبار، ولم نكن نعنــي أنها كتلة مصمتة واحدة، بــل نعتمد على قراءة موضوعيــة لتاريخ هــذه الأكثرية في الاعتــدال والبراغمات­ية، ودورهــا في بناء الدولة الســورية الحديثة، وفــي إعمار المدن والحواضــر، وفي النشــاط الاقتصادي والسياســي والثقافي العام، وعلى تجسيدها للتشــارك مع جميع السوريين المختلفين بالعقيدة والشعائر والطقوس؛ فما بالنا اليوم ننقّب عن أمراض عميقــة الجذور في بنية الطوائف الصغــرى، وفي أزمة تفكيرها المنطوية على خوف غريزي من الأكثرية من دون مبرر، ونتحدث عن رغبة أكثرية في الاستفراد والإقصاء والتحكم بالجميع، علماً أن وقائع أرض الصراع السوري الشرسة والصادمة، لم تشر إلى هذا ولا إلى ذاك؛ وإذا اســتثنينا الجهاديــن التكفريين الطارئين على المشهد السوري والمشــرقي، الذين هم ذاهبون إلى ترسيخ رؤية خاصة لمذاهب إضافية ضيقة تخدم توجهاتهم. وبعيداً عن تلك المناخات الشــعبوية المريضة التي طفت على فضاء الحدث السوري عامة، لم تتخذ المجتمعات الأهلية السورية أي تعبيرات سياسية تفتيتية وذات صبغة مذهبية، بل أكد الجميع على وحدة الكيان السوري والهوية السورية الجامعة.

صحيح أن السياســيي­ن والإعلاميي­ن تصدروا مشهد الصراع مــع نظام الجرائم والفســاد والدمار، ولكن الحقيقــة تقول: إنّ المجتمعات الأهلية كل بطريقته وحســب ظروفه، هي التي تولت أشكال المواجهة مع النظام والفصائل والجميع، وهي التي دفعت أغلى الأثمان، وفاوضت وأوجدت الحلول من دون، أن تشكل أي مرجعية سياسية حقيقية، ولا انتقلت بالذات الطائفية )الطائفة بذاتها( إلى ذات طائفية سياســية )طائفة لذاتها(؛ لذا يبدو لي أن السياســيي­ن والمثقفين الســوريين خاصة، ما زالوا يتبادلون لعبة التغابي والتعالي عن نقد مسارنا وأفكارنا، وأن هذا الفراغ السديمي الذي يحصر المبدعين والإبداع وعقول العامة، في فراغ اليد من سبل العمل المنتج والإبداع ومن الانشغال بالشأن العام، ترك فضــاء أكثر ملاءمة للفكر النكوصــي والعبث والدوران في الفراغ واللاجدوى، ولمزاج عام، لم يرتقِ بوعيه إلى مرتبة الفكر النيــر والبصيرة والهــمّ الوطني، وبعضه لم يجــد دواء لعلته ســوى عند أوصياء على عقله ودينه وموهبته ولسانه وقلمه، وهم يدفعون به نحو مزيد من الانكفاء وتعميق التفتيت والغربة الوطنية.

ثمّ متى كانت الحرية مفهوماً ذكورياً، يفســح فيه للرجل، أن يطبق رؤيتــه وحريته على المرأة فيحرمها من أبســط حقوقها، علماً أنه لا شــرط على الحرية سوى المسؤولية، وهي بهذا حرية شــخصية مســؤولة بقدر ما هي مســتقلة، وهل ينهض مجتمع نصفه أســياد على أكتاف نصفه المستعبد، ولاسيما أننا في عصر تتقدم فيه المرأة، لتأخذ دورها الإنساني وتحلّ محلّ ندرة الرجال في الوطن السوري المقفر والمتصحر من شبابه، بعد أن ذهبت بهم الحــرب والاعتقال أو دُفعوا إلى بلاد الغرب، لتســتثمر طاقاتهم ومواهبهم، فــي حين يبقى المواطن الســوري فــي حمى صراع وجودي مفتوح على المجهول؟ فهل سنظل غثاء ورغوة على وجه التاريــخ المعاصر المندفع بقوة نحو توديع آخر قيمه الإنســاني­ة الخيرة، وخارج نظمه الحرة الديمقراطي­ة؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom