Al-Quds Al-Arabi

الأمن القومي قبل الحريات

- *كاتب تونسي

مثّل التعتيم على الاضطرابات الاجتماعية الــذي انتهجه الإعلام الرســمي الفرنســي، خصوصــا قنــاة فرنســا 24، خلال الأيــام الأولــى لاحتجاجات أصحــاب «الســترات الصفــراء»، مفاجــأة للكثيرين بالنظــر إلــى مــا عرف عــن بلــد الأنــوار مــن احترام للحريات وابتعاد عن كل أشــكال التضييق على حرية التعبير والصحافة.

فقنــاة «فرنســا 24» تحديــدا لم تتحرك لتســليط الضــوء على ما يحــدث في شــوارع باريــس، إلا بعد أن تعرضت إلــى انتقادات واســعة داخليا وخارجيا وخيبــت آمال جماهيرها الواســعة، التي كانت تراها تسارع الخطى لتغطية الحدث أينما كان.

فالمتعارف عليه مثلا أن قناة «فرنسا 24» تهتم بكل شــاردة وواردة في تونس حتى لو تعلق الأمر بنفوق قطــة في الطريق العام نتيجــة لحادث عرضي، وتقيم الدنيــا ولا تقعدها كلمــا تعلق الأمر بحدث تونســي، حتــى وصل بها الأمــر إلى تغليب خبر بســيط يتعلق بالتمديد الروتيني في حالة الطوارئ في تونس، على آخــر بلجيكي يتعلق بخطف رهائــن. كما أنها تتجنب أحيانا التعرض إلى بعض الأخبار السارة التي تتعلق بالخضــراء، حتى أنها تعمــدت في إحدى نشــراتها عــدم الإعلان عــن فوز المنتخب التونســي فــي مباراة قارية وهي تســتعرض نتائج المنتخبات الإفريقية في تصفيات المونديال الأخير.

ويــرى كثيــر مــن التونســيي­ن أن تعامــل الإعــام الفرنســي مع الأحداث الحاصلة في بلاده، هي درس لأتباع فرنســا من التونسيين المتشــدقي­ن بالحريات، وكــذا لمراهقــي حقوق الإنســان الذين يأخــذون هذه الحقــوق علــى إطلاقهــا ولا يعترفــون باســتثناء­ات تتعلــق بالأمــن القومي وبصــورة البلد فــي الخارج. ويستشــهد هؤلاء بتلك الصور التي ظهــر فيها الأمن الفرنســي يقبض على مشتبه في ضلوعه في ارتكاب جرائــم إرهابيــة وهو يســاق مــن بيته إلى ســيارات الأمن عاريا. ولعل الســؤال الذي يطــرح في مثل هذه الحــالات أيهما يقع تغليبــه، إطلاق الحريــات العامة والخاصــة والدفاع عن حقــوق الإنســان، أم صيانة الأمــن القومي والحفاظ على صورة البلد في الخارج، خصوصا إذا تعلق الأمر بدولة يعتمد اقتصادها على الســياحة والاستثمار­ات الأجنبية. لقد أجابت فرنسا «الثورة»، الموطن الرئيســي لفلاســفة التنوير ومرجع الكثيــر من التونســيي­ن، على هذا الســؤال وانتصرت لأمنها القومي، من دون تردد، سواء خلال هذه الأزمة أو فــي كل مرة تثــور فيهــا الضواحي المهمشــة على الأوضاع المعيشــية المزريــة، أو خلال تعقب المشــتبه فيهــم في الإرهاب. هذا مــن دون الحديث عن الماضي الاستعماري الأســود لبلد فولتير، الذي غلّب مصالح الدولــة الفرنســية في عصر ما على حقوق الشــعوب المضطهــدة التي اســتبيحت بالكامل، ومــا زال نزيف بعضها متواصــا إلى اليوم مع الهيمنــة الاقتصادية الفرنسية على ثرواتها.

وسار الأتراك بدورهم أكثر من مرة في هذا الاتجاه، أي الضرب بالحريات عرض الحائط، كلما تعلق الأمر ‪Haut du‬ بالأمن القومي لتركيا وبمصالح شعبها، formulaire

و و علــى نهجووصــل بهــم الأمــر إلــى اســتباحة القنصليــة الســعودية مــن خــال التنصــت علــى مكالمــات الدبلوماسـ­ـيين الســعوديي­ن فــي قضيــة جمال خاشــقجي، ليصبحوا لاحقا هم أســياد اللعبة والمتحكمــ­ون فــي أدق تفاصيلهــا، بفضــل يقظتهــم وحرصهم على اســتتباب الأمن لمواطنيهم. لقد فكروا في هيبــة الدولــة التركية وســيادتها علــى أراضيها وضــرورة أن تكون علــى دراية بما يدور علــى ترابها الوطني حتــى إن تعلــق بقنصلية تعتبر فــي القانون الدبلوماسي والقنصلي أرضا سعودية.

ويشعر كثير من التونسيين اليوم بالحزن والأسى علــى حال الخضــراء التي كانت إلى وقــت غير بعيد، مضــرب الأمثال في هذا المجال، فــي حين باتت اليوم مخترقة من الجميع، أصدقاء وأعداء على حد ســواء، يرتــع فيها الجواســيس، يصولــون ويجولــون دون رقيب أو حسيب بسبب مراهقي حقوق الإنسان ومن تباكوا أمام العتبات المقدســة للسفارات الاجنبية من أجــل حل جهاز أمــن الدولة. ولعل المرء يســتذكر في هــذا الإطار قصــة ذلك «الجاســوس» البلجيكي الذي قيــل إنه بائع لعــب أطفال، والــذي كان من المفروض أن لا يصبــح مادة للتداول الاعلامي وأن لا يحال ملفه على القضاء.

لقــد تحــدث أحــد الخبــراء الأمنيــن فــي إحــدى الجلســات الخاصــة، علــى أن التعامــل مــع هــؤلاء الجواســيس يتم عــادة بإنــكار أنه تم القبــض عليه، ويمكــن الذهاب أبعــد من ذلك من خــال التأكيد على عــدم وجــوده على التــراب التونســي من الأســاس، ويودع في اقبية الاســتخبا­رات علــى غرار ما يحصل في البلــدان راعية حقوق الإنســان والحريــات، ليتم انتــزاع الاعترافــ­ات والمعلومات منه، ســواء عما كان ينــوي القيــام به في تونــس، أو ما يعرفــه عن الجهة الاســتخبا­راتية التي تســتخدمه، والتي يتم الاتصال بهــا لاحقا وعرض جاسوســها للبيع بثمن سياســي أو اقتصــادي، أو أي ثمــن آخــر ليصبــح عبــرة لمــن يعتبــر، وباعتباره أيضــا كنزا ثمينا قــادرا على إثراء بنك معطيات أجهزة اســتخبارا­تنا بالمعلومات المهمة وأمثاله غير متاحين باستمرار وفي كل الأوقات.

ولعل مــا يحز في نفوس الكثير من التونســيي­ن أن البلــد، وبعد هــذا «الربيــع العربي» الــذي أطلقت فيه الحريات، لم يعد مخترقا فقط من القوى الكبرى، كما كان الأمر في الســابق وقبل هذه «الفوضى الخلاقة» التي بشرت بها كوندوليزا رايس منذ سنوات، بل بات لقمة سائغة لكل أجهزة الاســتخبا­رات على اختلاف الأديــان والألســنة والألوان. لقد اخترقــت تونس من قبــل دول مــن الصنف الثانــي والعاشــر وحتى المئة فــي ترتيــب الأمم، حتى أنه بــات من غير المســتغرب أن يكــون لجزيــرة ميكرونيزيا المجهريــة الواقعة في المحيط الهــادي، التي عودتنا على التصويت أمميا مع الولايات المتحدة لصالح الكيان الصهيوني، والمتحكم فــي قرارها أمريكيــا، عملاء في تونــس يدافعون عن مصالحها على حساب هذا الوطن المكلوم.

ويحصل هذا، وللأســف، بعون من امتهنوا العمالة مــن أبنــاء جلدتنا ممــن لا يتورعون على بيــع وطنهم بأبخس الأثمان لقاء حفنة من الدولارات أو اليوروات أو بعض العملات العربية، وبعض هؤلاء العملاء كان يعمل بــن ظهرانينا قبل هذا «الربيــع» وبعضهم عاد من الخارج بعده وبمناسبته. فلا حديث إذن عن تنمية وديمقراطية قبل التشــخيص الجيد لحقيقة ما حصل فــي 14 يناير/كانون الثانــي 2011 وتطهير البلاد من شبكة العملاء من السياسيين وغيرهم، من دون تمييز بــن جهات الولاء التي يبدو أنها تتــوزع على القارات الخمس وربما في القطبين والمحيطات.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom