Al-Quds Al-Arabi

بوش الأب: حيثيات القيادي العادي

- ٭ كاتب تونسي

■ اتســمت المقالات الكثيرة التي نشرت في الصحافة الغربية بمناسبة وفــاة الرئيــس الأمريكي الســابق جورج هربرت ووكر بوش، ومجمل التناول الإعلامي الغربي لســيرته وفترة حكمــه، بالتركيز الإيجابي علــى إنجازاته ومناقبــه. ولهذا فإن بعــض الكتّــاب رأوا أن مــن واجبهم مواجهة هــذا الموقف العام، موقف «عــن الرضا عن كل عيب كليلة»، بمحاولة تعديل الكفــة بمقالات تتصدى لمهمة التذكير بأخطاء الرجل ونقائصه. بــل إن منها ما ذهب إلى حد اتهامه بالعنصرية، وارتكاب جرائم حرب وعرقلة سير العدالة.

وكان من المفيد التذكير، مثلا، بأن بوش اســتهان بحادثة إقدام البحرية الأمريكية على إســقاط طائــرة مدنية إيرانية في صيف 1987، وقال «إني لن أعتذر باســم الولايات المتحدة أبــدا، أيا كانت الوقائع». إلا أن التذكير بأن والده الســناتور برســكوت بوش كانت له معاملات مالية مع ألمانيا كان ينبغي أن يتضمن توضيحا بأنه لم يكــن متعاطفا مع النازية، وإنما الحقيقة أن إحدى الشركات الأمريكية التي كان هو عضوا في مجلس إدارتها قد كانت تتعامل مــع المجمع الصناعي الألماني فريتز تيســن الذي كان مــن ممولي الحزب النــازي. ولكن التمويل انقطع وحصلت القطيعة قبل نهاية الثلاثينيا­ت.

لــم تزدني قراءة ما نشــر في الأيــام الماضيــة إلا اقتناعا بالفكرة الأساســية التي كونتها عن بوش أثنــاء إقامتي في أمريكا فــي النصف الثاني مــن الثمانينيا­ت، حيث شــهدت أداءه نائبا للرئيــس ريغان، وحملتــه الانتخابية الناجحة ضد مايكل دوكاكيــس والنصف الأول من فترته الرئاســية. ومــؤدى الفكرة أن بوش دليل حي علــى قدرة الجهاز الحاكم فــي أمريكا على تأهيــل أي فرد عادي وتحويلــه إلى قيادي، وذلــك بتدريبه على إجــادة قواعد اللعبة المؤسســية وعلى استبطان منطقها الســلطوي. ولن أنسى أن جيمي كارتر قال فــي بداية الحملة الانتخابية عــام 1988 إن ما عرف به بوش لدى الدوائر الرسمية إنما هو فرط السذاجة! كما أذكر أن دارا للنشر أصدرت مختارات من أقواله المضحكة بركاكتها بعنوان «بوشــيّات». كان ذلك، طبعا، قبل زمن من صعود نجم بوش الابن («دابيا») الذي لا جدال في أنه يتفوق على والده في هذا المضمار. ومع ذلك، فقد كان الأب قادرا على أخذ عيبه هذا مأخذ الدعابــة، حيث قال عام 1989 إن «إتقــان الانكليزية ليس من الاتهامات التي سبق أن وجهت إلي»!

كان بــوش الأب منتجــا نموذجيــا للمؤسســة الحاكمة، فاجتمع له بحكــم متانة التكوين والتدريب، في العســكرية والدبلوماس­ــية والاســتخب­ارات والحكومــة الفدرالية، من المهــارات القيادية والخصال السياســية ما مكنه من حســن إدارة المفاوضات مع غورباتشوف حول إنهاء الحرب الباردة وتفكيك الاتحاد الســوفييت­ي وإعادة توحيــد ألمانيا، كل ذلك دون إطلاق رصاصــة واحدة. كما أن اعتمــاده على رجالات من طراز جيمس بيكر وبرنت ســكوكروفت وجون سنونو قد ضمن له حسن المشــورة. ورغم أن الانطباع الذي كان رائجا عن بوش منذ الستينيات هو أنه باهت الشخصية، فإن كلا من غورباتشوف، وجون ميجور، ومارغرت تاتشر ومستشارها الصحافي برنارد إنغهام قد رسموا له، في مذكراتهم المنشورة، صورة السياســي الرصين. بل إن إنغهام يقول إن ســبب هذا الانطباع هو أنه كان متعقّلا متروّيا لا يرتجل أي قرار.

أما بخصوص تحرير الكويــت، فإن جون ميجور يؤكد في مذكراته أن بوش كان يسعى حتى آخر لحظة إلى تجنب العمل العسكري وأنه كان يأمل في انســحاب القوات العراقية قبل الأجل النهائــي )15 كانون الثاني/ينايــر 1991(، وأنه أعلن في ســبيل ذلك اســتعداده لإرســال جيمس بيكر إلى بغداد واســتقبال طارق عزيز في واشــنطن. ولما التقيــا في كامب ديفيد، قبل الحرب بثلاثة أسابيع، لمس ميجور أن بوش، رغم خبرته القتالية، لم يكن بطبعه ميالا إلى الحروب. واستشهد برسالة بوش التي أكد فيها لأولاده، عشية الحرب، أنه تريث طويــا حتى يمنح فرصة للحل الســلمي، قبــل أن يبوح بأن «نياط قلبه تتقطع» كلما لاح له خطر الخسائر في الأرواح لأنه كان يتمنى عدم التضحية بحياة أحد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom