Al-Quds Al-Arabi

لا مستقبل لإيران في سوريا

-

لا شــك أن إيران صارت الحاكم بأمرها في العراق بفضــل تحالفها مع الغــزاة الأمريكيين منــذ بداية هذا القرن، ولا شك أنها تحاول تعميم التجربة العراقية على لبنان وسوريا واليمن وأي بلد عربي تستطيع اختراقه بدعم أمريكي وإســرائيل­ي. لكن كما يقول المثل الشعبي ليس كل وقعاتها بزلابية، فالتركيبة السكانية والدينية والثقافية لــكل بلد عربي تختلف عــن الآخر، فلا يمكن مثلاً تمرير الوصفة الإيرانية في العراق في سوريا، ففي العراق مثلاً تمكنت إيران من إحكام قبضتها على النظام العراقــي بعد الغزو أولاً بمباركــة أمريكية، وثانياً وهو الأهــم أن حوالي نصف العراق هم من الشــيعة المذهب الســائد في إيران ذاتها، لهذا استخدمت العامل المذهبي والدينــي بقوة في تمرير مخططها في العراق عن طريق وكلائها الدينيين ومن بعدهم المســؤولي­ن الشيعة الذين يوالونها مذهبيــاً وعقدياً. ولا ننســى أن هناك قاعدة وحاضنة شــعبية فــي العراق تســاعد الإيرانيين على التغلغل في البلاد ثقافياً ودينياً ومن ثم الســيطرة على الأرض.

صحيح أيضاً أنها اســتطاعت عبــر ذراعها المذهبي والعســكري المتمتثــل بحــزب اللــه أن تتغلغــل في لبنان وتحكــم قبضتها على جزء كبير منــه بالترغيب والترهيــب، لكــن تأثيرهــا الثقافــي والدينــي يبقى منحصراً فــي الضاحيــة الجنوبية من بيــروت حيث يتمركز حلفاؤها الشــيعة، بينما تبقى بقية أجزاء لبنان المسيحية والدرزية والإســامي­ة السنية خارج التأثير الإيرانــي الممجوج والممقوت والمرفــوض رفضاً قاطعاً. وتتمثل الســيطرة الإيرانيــ­ة على لبنان فــي ذراعيها الاقتصادي والعســكري فقط، فهي قــادرة على تطويع الأحزاب اللبنانيــ­ة بالقوة والترهيب أو بالتمويل فقط، ومهما مكثت في لبنان لن تســتطيع أن تتجذر بســبب تنــوع التركيبة الديمغرافي­ــة والدينيــة والثقافية في البلاد.

ويســتاءل البعض: بما أن إيــران تمكنت من فرض ســيطرتها على العراق مذهبياً وسياســياً، وفي لبنان عســكرياً واقتصادياً، فلماذا لا تتمكــن من الهيمنة على ســوريا بذات الطريقتين أو بطريقة مختلفة؟ والجواب على هذا الســؤال: إن الوضع في ســوريا أصعب على إيران بكثير مهما قدم لها النظام من خدمات وتسهيلات علــى الأرض مرحلياً. لمــاذا؟ لأن الغالبيــة العظمى من الشعب السوري لا توالي إيران مذهبياً كما في العراق، فالســواد الأعظم من الســوريين من المســلمين السنة الذيــن يكرهون الأرض التي تمشــي عليها إيران، لا بل يعتبرونها قــوة غازية تحاول أن تفــرض مذهبها على شــعب غالبيته من الســنة. دعك من القيادات الدينية السنية السياسية في ســوريا التي تسبح بحمد إيران وتبارك التحالف معهــا الآن، فهذه الطبقة لا تمون على شــيء في ســوريا أصلاً وهي مجرد موظفــن يؤدون مهمة مطلوبة منهم من القيادة الســورية التي تتحالف مع إيــران لمصلحتهــا بالدرجة الأولــى وليس لتمكين الإيرانيين من رقبة سوريا.

والأمر الإيجابي الآخر أن الطائفــة العلوية التي قد تبــدو متحالفة مع إيــران مذهبيــاً، إلا أن الواقع يقول إن العلويين هــم أكثــر الكارهين للنفــوذ الإيراني في سوريا، ولا ننسى أن الشــيعة يكفرّون العلويين أصلاً ولايعتبرون­هم من الاثني عشــرية. أضــف إلى ذلك أن العلويين طائفة علمانية تحب الحيــاة ومعظم أفرادها متنــورون ومنفتحــون ويكرهــون الانغــاق والفكر الظلامي الإيراني، ومهما حاولت إيران اختراق مناطقهم بالعامل المالي واســتغلال ظروفهم الاقتصادية المزرية، إلا أنهم لن يقبلوا بتشييعهم وتحويلهم إلى دراويش في ولاية الفقيه. ولا شك أنهم ســيقاومون إيران مثل بقية السوريين وربما أكثر.

لا تصدقوا كل الأقاويل أن ســوريا صارت في الجيب الإيراني، فبالرغم من كل التسهيلات التي حصلت عليها إيران في ســوريا، إلا أنها تبقى حتى فــي نظر القيادة السياسية والعســكري­ة والأمنية في سوريا قوة غريبة أجبرتها الظروف على التحالف معها عسكرياً وسياسياً، لكن لا يمكن الســماح لها بابتلاع البلد وتسييره حسب الرغبة الفارسية. ومن الأمور الإيجابية في سوريا الآن أن الغالبية العظمى من الطبقات الثقافية والسياســي­ة والدينية تستخدم أســلوب التقية مع إيران، على مبدأ: داوها بالتي كانت هي الداء. تمالأها في العلن، وتلعنها ســراً. ولا بد مــن التذكير هنــا أن الســواد الأعظم من النخبة السياســية والأمنية الســورية يكره الإيرانيين كما يكرهون الأمراض، ويقولون فيها ما لم يقله مالك في الخمر في جلساتهم الخاصة، فهم لا يطيقونها ويعتبرون التحالف معها ضرورة أجبرتهم عليها الظروف لحماية النظام لا أكثــر ولا أقل. وقد يكون لــدى إيران الآن في سوريا موالون داخل القيادات الأمنية والعسكرية، لكن النظام يراقب كل شــيء ويعرف كل شاردة وورادة عن التغلغــل والنفوذ الإيراني داخل البــاد، لا بل إن أكثر من يحارب عمليات التشــييع الإيرانية داخل ســوريا ويضبطها هو النظام. ولا تتفاجأوا إذا ســمعتم أن أكثر من يحــاول كبح جمــاح الإيرانيين داخل ســوريا هي القيادة الســورية. ومن الخطأ الظــن أن البلد قد تم تســليمه لإيــران. لا أبــداً. وهناك كلام الآن عــن أن النظــام بصــدد تســريح العديد من القيادات العسكرية والأمنية المقربة من إيران. ولا ننســى أن التحالف مع الروس كان هدفه الأساسي منع إيران من السيطرة على سوريا وابتلاعها. ولو سألت السوريين في الداخل: من تفضلون: إيران أم روسيا لصوّت كل السوريين لصالح النفوذ الروسي ضد الإيراني، لأن روســيا ليس لديها مطامع دينية وثقافية إحلالية في سوريا على الأقل كما لإيران.

ولا تتفاجأوا أيضاً إذا سمعتم أن القيادة السورية قد تنفســت الصعداء بعد طرد الإيرانيين من سوريا بهذه الطريقــة أو تلك. ولن أتعجب إذا ســمعت أن الكثيرين في سوريا يباركون الضربات التي تتعرض لها القواعد الإيرانية في البــاد من هذا الطــرف أو ذاك. دعكم من التصريحات السياسية، فهي للاستهلاك الإعلامي فقط. والنخبة الســورية المتحالفة مع إيــران الآن تعلم علم اليقين أن تعاظم النفوذ الإيراني في سوريا يشكل خطراً عليها أكثر من أي شــيء آخر، لهذا ستكون أسعد الناس عندما يتم تقليم أظافر الإيراني في سوريا على أن تبقى حليفاً مضبوطاً في خدمة سوريا وليس العكس.

ولا تنســوا أن التحركات الأمريكية والإســرائ­يلية والعربية لتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة كلها تصب في خدمة الموقف السوري حتى لو لم يعلن عن موقفه.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom