Al-Quds Al-Arabi

القصيدة القصيرة: ملمح وتمثيل

-

قد يبدو تساؤلنا عن سبب جعل القصيدة موصوفة بأنها قصيرة هو التساؤل نفسه عن سبب جعل القصة قصيرة، فالاختزال الحدثي والتكثيف الدلالي والتقليص الموضوعي أهم الأسباب.

وإذا كنا في السرد قد تواضعنا نقديا على اجناسية القصة القصيرة، فإننا في الشعر ما زلنا لا نعطي لهذا اللون في كتابة القصيدة اهتماما نقديا يناسب حجم امتداده وولع الشعراء بالتجريب فيه. وهنا نقصر حديثنا على قصيدة التفعيلة التي أصبح الميل إلى كتابتها قصيرة طاغيا حتى أنه أزاح تلك المرحلة التي كان فيها الشاعر يراهن على كتابة قصيدة تفعيلة طويلة بعد أن وجد شاعر اليوم أن الموضوع المراد التعبير عنه من الاتساع ما يستدعي أن تضيق معه القصيدة كإحدى خصوصيات المراوغة الشعرية للمعتاد انزياحا صـوب المجــاز ومـروقـا على مواضعات التطابق.

وواحدة من ملامح القصيدة القصيرة أنها ذات إيقاعية هادئة لا جعجعة فيها، تنساب حتى لا تعقيد ينداح في تراكيبها ولا إغماض ينتاب مدلولاتها. ومنها أيضا ميلانها إلى السرد، حيث لا مفر من وجـود حدث يرافقه صوت سردي خارجي أو داخلي، كما لا مناص من زمان يحدد تلقائيا بلا إقحام أو تعسف. وهذا ما يجعل القصر في القصيدة تاما شكليا ومضمونيا.

والجمالية التي ستنتج عن تزامن الإيقاعية بالسردية هي المفارقة الفنية التي مكانها في الختام كقفلة تقود القارئ إلى حيث تريد. وهنا تكمن فاعلية هذه القصيدة القصيرة افتنانا واختبارا.

وليس يسيرا كتابة قصيدة تفعيلة قصيرة لأنها قد تستغرق ضعف المتاح الإنتاجي الـذي تتطلبه إنتاجية القصيدة الطويلة. وقد يبدو هذا غريبا لكنه حقيقي لأن الشاعر يجرب أن يقول موضوعا في شكل ينتهي بمحصلة تصدم القارئ وتقوده إلى حيث يبغي الشاعر.

وشعراء القصيدة القصيرة في صيغتها التفعيلية يتزايدون وبعضهم ترك قصيدة العمود واتجه نحو هذه القصيدة لا لشيء سوى أنها تتحدى شاعرها في الكيفية التي بها تطاوع أفكاره وتتماشى مع رغائبه لتكون في الختام إيقاعية سردية بمفارقة فنية.

هذا التحدي يشابه، ولو من بعيد، تحدي القصيدة العمودية لشاعرها في مدى جاهزية قوالب الوزن والتقفية للتعبير عن المـوضـوع المــراد تقديمه شعريا. ولعل هذا التحدي هو الذي حمل الشعراء على تجريب الكتابة في هذا الشكل القصير، متحررين من التقفية التي تتطلبها القصيدة العمودية ومتخلصين من انفلاتية قصيدة النثر وتشعبية ميادين التجريب فيها.

وهكذا صـار الشعراء يميلون إلـى قصيدة التفعيلة القصيرة يكتبون فيها خلجاتهم ويعبرون عن تطلعاتهم وقد جمعوا وزنية العمود الشكلية بامتدادية قصيدة النثر السردية لتكون قصيدة لا هي بالمنفلتة ولا هي بالملتزمة. إنها قصيدة شبه التزامية في مبناها وشبه انفلاتية في محتواها، وقد غدا للحلم فيها مكان وللمفارقة حضور كبصمة ختام.

وكــان الناقد محسن اطميش قد عـدَّ القصر لصيقا بالقصيدة الغنائية وليس الدرامية، والسبب أن القصر يمنع القصيدة من النهوض بمقومات الفن الدرامي لكنه استثنى تحقق القصر في القصيدة الدرامية «حين يتهيأ لها فنان مقتدر» دير الملاك ص75 وهذا يعني أن القصر اقتدار شعري وملمح عزيز من ملامح قصيدة التفعيلة.

وكنا نرجو لو أن الناقد اطميش طبّق هذا الاستدراك إجرائيا ولم يتركه حبيس أفقه النظري، وهو يعلل لحركة الشعر العراقي المعاصر، قاصرا التمثيل على القصيدة ذات البناء الطويل وقصيدة القناع، غير مشير إلى القصيدة ذات البناء القصير وما يمكن أن تنماز به من نزعة درامية ينجزها شاعر )مقتدر( علما أن أغلب الذين وقف عند قصائدهم في كتابه )دير الملاك( هم من المقتدرين والمبتكرين.

قد يكون السبب أن النموذج الكامن في الذائقة الشعرية هو النموذج التفعيلي السيابي الذي عادة ما تأخذ دراميته منحى تطويليا، وإذا كـان السياب هو سيد القصيدة الدرامية التي اتضحت طاقتها عنده وانعجنت بروحه كامنة في أقبية الروح بطبائع تنماز بالغرابة والرهافة والتهكم واللوعة فكيف بعد ذلـك كله يمكن تخطي هـذه الأبوية الشعرية والتحرر من رهانات الوعي بـ)الطول والدرامية(، إلا إذا ترك الشاعر قصيدة التفعيلة ومال إلى قصيدة النثر صانعا دراميته الخاصة بلا ضغط النموذج السيابي.

وفي تاريخ الشعر المعاصر أمثلة كثيرة على شعراء تركوا قصيدة التفعيلة كليا أو جزئيا ممتثلين لإغراء قصيدة النثر التي وجدوا فيها الدربة والرهافة.

حساسية قصيدة التفعيلة القصيرة أنها أعادت الاهتمام إلى الإيقاعية الوزنية ليكون فيها ما يتمم ترجمان أشواق روح مضطربة ومنكمشة في عالم معقد ومتقاطع، فيه المدينة هي المطمح والمبتغى وهي المهجر والمنفى. والشاعر فيها غريب وحبيس يريد إستعادة ذاته من جديد.

وإذ لا رسوخ في حياة لم تعد ذات بعد واحد بداوة أو حضارة، استقرارا أو ثورة وإنما هي متعددة الأبعاد بحروب كونية وأنظمة شمولية وأقنعة توليتارية، والإنسان أمامها واقف ببعد واحد كما يقول هربرت ماركوز تصبح قصيدة التفعيلة هي بنت العمود وربيبته التي سارت على هديه؛ بيد أنها عرفت كيف تدخل إلى أعماق الشعور وتبصر رؤاه الخفية المتدارية والمقصية في غياهب حالكة مكانها حنايا الروح. حتى إذا انمازت قصيدة التفعيلة بالقصر، صارت بناء شعوريا يتصور على ذمة شاعر يختصر التاريخ واللغة والعالم في حاضر مدهش، حزين ومعتاد لكنه طارد.

وهذا ما يجعل المستقبل للقصيدة القصيرة لتكون هي الأوسع انتشارا وإشباعا لمخيلة تريد التقاط أدق دفقات الشعور بلا حدود. وإذا أفردنا لتأثيرات القصر على هذه القصيدة مساحة، وجدنا أنها ستغدو مثل الاسفنجة كلما امتصت الحـزن في كل سطر بالصمت والسواد كبرت جماليتها المتسربلة بالشجن والمتدارية بالهم والمتلفعة بالأسى.

ومن تأثيرات القصر أيضا العمق الذي يجعل قصيدة التفعيلة مكثفة الخيوط ومثخنة الجــراح وملتاعة في مسارب نفس ولهى، أتسع شعورها فضاق عليها التعبير عنه إلا في قالب قصير مكثف وعميق.

ولأن القصيدة قصيرة يكون الخـوف معبودها الذي تطارده ويطاردها بفخاخ لا هزل فيها وهي تجمع اليتم بالترمل منقطعة الجـذور متهدمة الأركـان وقد كبح لظى العالم المضطرب والوضيع صحوة الضمير، فليس أمامها سوى التهالك في الإيقاع.

وهي إذ تردد ألفاظ الفجيعة متجاوزة الفظاظة ومتبرئة من التعقيد؛ فإن شجونها عنيفة واحتجاجاته­ا عارمة وتبريراتها دوما حاضرة لا تريد المغازلة لكن هواها رقيق مملوء تساميا وديمـومـة. وهـي في شـدة أساها تترنم بالصدق، وفي حومة الحظر والاستبعاد تسترجع غصص الحزن ملونة بالسواد طافحة بخواطر السقوط في هاوية قدر تموزي هو نتيجة حتمية لكارثة أزلية تجعل هول الحياة متلخصا بالفقدان والإخفاق والضياع والتبدد.

فهل هذا يعني أن القصر في قصيدة التفعيلة هو أزمة روح وانقطاع شعور وحدية إبداع؟

إن الشعر كالقصة وذلك حين يكون التأزم ضروريا لفتل المشاعر ونسجها بطريقة تعطي الرضا للقارئ الذي يشعره التحبيك باللذة الجمالية والمتعة الروحية فيطرب للشجن ويستلذ باللوعة ويأنس للهلع ويرتاح للألم، وهـذا هو مقصد القصيدة القصيرة، التي تستجلب بقصرها الحنين والألفة والتشارك والتواصل، فتغدو الصور متوحدة والمشاعر متدفقة والإيقاعات منسابة في خضم نشيج ملتاع بالنعي والنواح.

وننتقي للتمثيل على ما تقدم من ملامح وتأثيرات ومحصلات، قصيدة التفعيلة القصيرة عند الشاعر مجبل المالكي في ديوانه )سـدرة الغروب( الصادر في طبعته الأولـى في البصرة عام 2018 ، وفيه مئة وست قصائد قصيرة، كل واحدة منها هي نص نافر قلق ومنفعل، أتعبه الأسى وأضناه الشجن، وقسا عليه الحزن وبرَّح به الوجد الشفيف بتشاؤم رهيب، يتستر بالألم ويهب الإيقاع بلا فتور. والشاعر يريد لقصيدته أن تكون شريحة حياة هي كاتبة عراقية

 ??  ?? شظايا رماد في ليل نازك الملائكة البهيم، وهموم البياتي وهو يكتب على قبر عائشة ومضارب خيام على مشارف أنين عبد الواحد وإنجيليات يوسف الصائغ وهو يفتش عن رياح بني مازن بلا جدوى.
وأول نص يواجهك في الديوان ستجده مرثية عنوانا ومتنا، وفيه يؤبن الصوت السردي رحيله الأبدي مضببا لا يعرف حضوره من غيابه كالضائع الملتفع بكفن في عدم سرمدي، والمفارقة أن الحقيقة تغالط الحلم : أتدحرج ملفوفا برداء أبيض فوق صقيع الأرض وأدخل قبرا يثلج ما غار بصدري من حمى الأحزان. لا أبصر حولي غير طيور موحشة تنحب في الأفق وعاشقة تنثر الأزهار قصائد سوف تظل تشع على مر الأزمان. ولأن الماضي لن يعود والمستقبل غير آت، يكون الحاضر حزينا. والحزن هو الموضوع الأثير الذي يجعل القصيدة عند المالكي تضج بالغرابة التي فيها الذات وادعة لكنها مفتتنة، وشكل الدال يناظر المدلول ضمن معمارية تجمع القصر بالإيقاع والدرامية بالسردية فيتحول الحزن إلى )غروب( والذات إلى )سدرة( وبهذا يكثف العنوان العتبة، مضفيا الطابع المأساوي على النصوص كلها.
ويجعل قصر المعمار التفعيلي المأساوية مستحضرة بدورية الدال على المدلول باطنيا وظاهريا حيث الصوت ممهور بالموت والصمت كاظم للحزن وكابت للأسى. أما درامية القصيدة عند المالكي فتموزية تتبع خطى السياب أنينا وشكوى وأبدية، وتجعل الإيقاعية المتون تتناسخ بعفوية نافضة عنها الطول كي تتعايش مع القصر.
وتكثف سردية القصيدة القصيرة واحدية الصوت بعيدا عن الاستغراق في التصعيد والتداعي الذاتي والموضوعي مع الاختزال في التساؤلات والأوصاف والحركات: )تنثر الأفق بالدمع والناعقات الطيور يرتاع من هوله آخر الليل حتى تراب القبور( هكذا تظل مفردات )الفناء/ الموت/ التشرد/ الضياع / الوحشة/ وصية/ القبر/ الموتى/ الشحوب( سمات عنوانية تنفجر متونا مأساوية بإزاء واقع مستباح شبه ميت.
شظايا رماد في ليل نازك الملائكة البهيم، وهموم البياتي وهو يكتب على قبر عائشة ومضارب خيام على مشارف أنين عبد الواحد وإنجيليات يوسف الصائغ وهو يفتش عن رياح بني مازن بلا جدوى. وأول نص يواجهك في الديوان ستجده مرثية عنوانا ومتنا، وفيه يؤبن الصوت السردي رحيله الأبدي مضببا لا يعرف حضوره من غيابه كالضائع الملتفع بكفن في عدم سرمدي، والمفارقة أن الحقيقة تغالط الحلم : أتدحرج ملفوفا برداء أبيض فوق صقيع الأرض وأدخل قبرا يثلج ما غار بصدري من حمى الأحزان. لا أبصر حولي غير طيور موحشة تنحب في الأفق وعاشقة تنثر الأزهار قصائد سوف تظل تشع على مر الأزمان. ولأن الماضي لن يعود والمستقبل غير آت، يكون الحاضر حزينا. والحزن هو الموضوع الأثير الذي يجعل القصيدة عند المالكي تضج بالغرابة التي فيها الذات وادعة لكنها مفتتنة، وشكل الدال يناظر المدلول ضمن معمارية تجمع القصر بالإيقاع والدرامية بالسردية فيتحول الحزن إلى )غروب( والذات إلى )سدرة( وبهذا يكثف العنوان العتبة، مضفيا الطابع المأساوي على النصوص كلها. ويجعل قصر المعمار التفعيلي المأساوية مستحضرة بدورية الدال على المدلول باطنيا وظاهريا حيث الصوت ممهور بالموت والصمت كاظم للحزن وكابت للأسى. أما درامية القصيدة عند المالكي فتموزية تتبع خطى السياب أنينا وشكوى وأبدية، وتجعل الإيقاعية المتون تتناسخ بعفوية نافضة عنها الطول كي تتعايش مع القصر. وتكثف سردية القصيدة القصيرة واحدية الصوت بعيدا عن الاستغراق في التصعيد والتداعي الذاتي والموضوعي مع الاختزال في التساؤلات والأوصاف والحركات: )تنثر الأفق بالدمع والناعقات الطيور يرتاع من هوله آخر الليل حتى تراب القبور( هكذا تظل مفردات )الفناء/ الموت/ التشرد/ الضياع / الوحشة/ وصية/ القبر/ الموتى/ الشحوب( سمات عنوانية تنفجر متونا مأساوية بإزاء واقع مستباح شبه ميت.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom