Al-Quds Al-Arabi

رخمانينوف السهل الممتنع

مقدرته الفائقة أرهفت سمع العالم إلى موسيقاه:

- بشّار عبد الواحد لؤلؤة

يقول العلاّمة في اللسانيّات السلافيّة وآدابــهــ­ا، بـوريـس أوتـوكـار أوْنْـبَـجـاوْن (،1973-1898( الروسيّ المولد الألماني الأصل، في كتابه القيّم «الألقاب الرّوسيّة» (،1972( إن كلمة «رخــمــانـ­ـن» تعني «كسول» بالرّوسيّة القديمة، وهو اسم التحبّب الذي لقب به فاسيلي، أحد الأنجال الأصغر سنّاً لأمير مَولْدَوفْيا إلخ، إسطيفان الثالث، من سلالة الدراجَوشي التي حكمت سواحل أُوكرانيا وأرض القرم ومولدوفيا وفالاخيا )أو رومانيا شمال الدانوب وجنوبه في تلك الحقبة( من ‪1552- 1350‬ وقارعت العثمانيين بغية الهيمنة على البحر الأسود. ويبدو أن نجل الأمير هذا لم يحلم يوماً بالولاية على العرش دع عنك الجلوس عليه، جرّاء تربّع أبيه عليه من ‪،1504- 1457‬ فراح يُغرِق في الارتخاء. لكننا سنتغاضى عن خموله ذاك لأننا ندين له بالامتنان لقاء تفرّغه للإنجاب، إذ إن والـد مؤلفنا الموسيقار الفذّ المتعدّد المواهب، سيرغي رَخْمانِينَوْف ‪(،1943- 1873)‬ينحدر من نسله، لذا فإن لقبه لا تمتّ بصلة بأيٍّ من الأسماء الحسنى. بل وليس ثمة صلة لها بأي كلمة مصدرها الفعل الثلاثي «رحم» لا سيّما وأن والد فاسيلي، أمير مولدوفيا إلخ، الذي تلقّب بالعظيم، اشتهر بالبطش بأعدائه، بمَن فيهم شقيقه، بطرس، الذي نافسه على الإمـــارة في معركة فدحره وحلفاءه وألقى القبض عليه ولم يتردد في إعدامه إذ عظمت في عينه صغارها. بيد أن قسوته تلك لم تمنع الكنيسة الرومانية الأرثوذكسي­ة في بوخارست من تطويبه قدّيساً في 1992 فأثبتت بذلك على أنها أصغر من صغار التاريخ.

يرى القارئ فيما تقدّم كثرة التناقضات الــصّــارخــة وتغلغلها فــي نسيج تلك المجتمعات، كما يلمس الاعتباطيّة في تـوفّـر الامــتــي­ــازات أو انعدامها حسب الطبقة المجتمعية التي يولد فيها المرء، إذ يقابل ابـن الأمير الإقطاعي الــذي أمعن في الاسترخاء آلاف أبناء الفلاحين ممّن أُجبروا على التجنّد وقضوا نحبهم في معارك ضارية لتوفير الهدوء والطمأنينة لأبناء الـــذوات. ورغـم مـرور ثلاثة قرون ونيّف على سقوط سلالة الدراجَوشي عن عرشها على يد العثمانيين، ظلّ أحفادها يتوارثون الأراضــي والمـــزار­ع ويضيفون إلى قائمة أملاكهم صوب الشمال إمّا من أربـاح حصاد مزارعهم أو استثماراته­م، أو بمصاهرة الإقطاعيين مـن أمثالهم. فكان أن تلقّت والدة مؤلّفنا - التي تنحدر بـدورهـا مـن عائلة لــواء ثــريّ فـي جيش القيصر- لدى زواجها جـزءاً من مهرها على شكل خمس مـزارع، منها مزرعتان، شمالي وجنوبي بحيرة إلْمَنْ، حوالي مئتي كيلومتر جنوب عاصمة روسيا القيصرية، سانت بطرسبورغ. وقـد بلغتنا شهادة تعميد سيرغي، رابع أطفالها الستة، في كنيسة روسية أرثوذكسية إلى الجنوب من تلك البحيرة، لكن مؤلفنا نفسه أشار طوال حياته إلى المزرعة المدعوّة أونَيج والكائنة إلى الشمال من البحيرة، على مقربة من مدينة فَيلِيكِي نَوفجَورَود، على أنها هي مسقط رأسه في الأول من نيسان/أبريل .1873

نشأ سيرغي في دار المزرعة الأخيرة حـتـى بـلـغ الـتـاسـعـ­ة، وتــبــدّت موهبته الموسيقية بوضوح في باكورة صباه، إذ كان يعيد عزف مقاطع من الذاكرة بدون زلّـة واحــدة، ما حدا بوالدته إلى البحث عن مدرّسة موسيقى له ابـتـداءً من سن الرابعة. ولـم يكن ذلـك أمــراً غريباً على هذه السلالة الأرستقراط­ية، إذ كان جدّ سيرغي لأبيه، أركـادي، قد تتلمذ على يد المؤلف وعازف البيانو الأيرلندي المرموق جون فِيْلْد )1782-1837( - الذي أقام في روسيا ردحاً من الزمن وكان قد لاقى عزفه إعجاب هايدن ولِيسْتْ وشومان وشوبان - فيما عُرف عن والده الضابط، فاسيلي، حبّه للموسيقى وتعلّقه بمفاتيح العاج هو الآخر. فكان أن اقترح الجدّ، أركادي، على الأم، ليوبوف، أن توظّف عازفة البيانو الشابة، أنّا أوْرْناتْسْكايا، التي كانت قد تخرّجت للتوّ في المعهد العالي للموسيقى في العاصمة، كي تقيم في دار مزرعة العائلة وتأخذ بزمام تعليم الابن، سيرغي، على نحو ممنهج هادف. وقد خلّدها مؤلفنا لاحقاً حين وجّه إهداءه إليها في ترويسة قطعته بعنوان «مياه الربيع» من عمله المرقّم ‪«12 ،14‬ رومانسيّات» للبيانو المنفرد.

وكان أن اضطرّ ربّ العائلة إلى بيع أربع من أصل خمس مــزارع، بما فيها المزرعة الكائنة في أونيج، في المـزاد العلني عام 1882 بسبب إشرافه على الإفـاس، وظل ابنه، سرجي، ينعت أبــاه طــوال حياته على أنـه كـان مــبــذّراً، ومقامراً لا يقوى على مقاومة إغـراء الملذّات، ومنافقاً حدّ المـــرض، وزيّـــر نـسـاء. فانتقلت العائلة للسكنى في شقة صغيرة في العاصمة وتوسّطت معلّمة سرجي لدى المعهد العالي للموسيقى الذي كانت قد تخرّجت فيه كي يلتحق به تلميذها النجيب في 1883 وقد بلغ العاشرة. ثم توفّيت شقيقته، صوفيا، بالخنّاق، وترك أبوه العائلة ليسكن وحده بعيداً عنها في موسكو، فجاءت جدّته لأمه لتسكن مع العائلة وتساهم في تنشئة بقية الأطفال، وقد وضعت نصب عينيها تربيتهم الدينية. فاصطحبت سيرغي إلى قداديس الكنيسة الروسية الأرثوذكسي­ة بانتظام حيث استمع أول مرة لتراتيلها ولأجراسها، وهما مادتان عاود الاغتراف منهما في مؤلفاته اللاحقة مــراراً. وفي 1885 توفّيت شقيقته الثانية، أيْلَيْنا، عن ثمانية عشر ربيعاً بسبب فقر الدم الخبيث، وكانت هذه الشقيقة هي التي أطلعته على مؤلفات بْيَوتْر جايكوفسكي (1893-1840(، الذي كان له أبلغ الأثر في أسلوبه في التأليف. ومرّ سيرغي بفترة ضياع وتكاسل عن الدراسة، وسمّى هذه الفترة أستاذه في التوزيع للأوركسترا، نيكولاي ريمْسْكِي-كَورْسَاكَوف )1844- 1908( صاحب متتالية «شهرزاد» 1888(،) مرحلة إيهام للذات وكسل روسيين بامتياز كــادت أن تــؤدي إلــى طــرده مـن المعهد. وانتقل سيرغي بُعيد ذلك إلى المعهد العالي للموسيقى في موسكو بناءً على نصيحة ابـن خالته، ألكسندر سيلوتي -1863) (1945 عـــازف البيانو والمــؤلــ­ف وقائد الأوركسترا الذي تتلمذ على يد فْرانْتْسْ لِيْسْت )1811-1886( إذ درس سَرجَي لدى أستاذ سيلوتي صعب المــراس، نيكولاي زْفَيْرَفْ (،1893-1832) وأقـام في بيته، وكان أحد زملائه في الدراسة والسكنى عـازف البيانو والمؤلف اللامع ألكسندر سْكْرِيابِن )1871-1915(. وأرسله أستاذه زفيرف في 1888 إلى دار خاله في موسكو كي يستعد للامتحانات النهائية، فوقع سيرغي فـي غــرام ابنة الجـيـران، فَـيْـرا. واستمر سيرغي يتقدّم في دراسته منذ لحظة بلوغه موسكو، وظلّ يسجّل فوزاً بعد فوز من بعد تخرّجه.

يستشفّ القارئ ممّا تقدّم أن ثراء عائلة رخمانينوف وحده لم ينقذها من أهوال تقلّب أقدارها، بل أنقذتها العلاقات التي تنفرد بها العائلات الأرستقراط­ية. لكن، ومـن ناحية ثانية، تجـارب الحياة هذه، بحُلوها ومُرّها، أغنت موهبة رخمانينوف أيّما إغناء، فراح يضمّن قطعه نشوة الحب الأول وألم فقدان شقيقتيه وغيرهما الكثير، وأفلح في الإفـصـاح عن خلجات القلب موسيقياً بدون أن يشترط على المستمع إلماماً لا بمفردات لغة الموسيقى ولا بنحوها. وهذه المقدرة النادرة المثيل هي التي جعلت آذان العالم ترهف لسماع موسيقاه، أيّاً كان مهادها الثقافي أو ذوقها الموسيقي، حتى أن أعــــداداً غفيرة مـن المستمعين لموسيقاه تدندن ألحانه التي تسمعها في أحد الأشرطة السينمائية الرائجة، وما أكثرها، من دون أن تعي أن اللحن ذاك من تأليف رخمانينوف!

فإذا استمعنا نحن، معشر العرب، إلى سيمفونيتيه الأولى والثانية، مثلاً، فسنجد أن ألحانها مألوفة للغاية، لكثرة ما فيها من رخمانينوف أصداء لشرقنا بمرّه الذي يطغى على حلوه. وكذلك الأمـر في الكونشيرتو­ين الثاني والثالث للبيانو بمرافقة الأوركسترا، وفي قطعه العديدة للأوركسترا وحدها وللبيانو المنفرد ولموسيقى الصالة وحتى لجوقة الغناء. لكننا إذا ما استمعنا إلى كل هذه القطع عن كثب وقارنّاها بتراتيل الكنيسة الروسية الأرثوذكسي­ة، فسنكتشف أن التراتيل مصدر الإيحاء بها، لا ألحان أغانٍ شعبية عربية، مثلاً، التي هي بمثابة فرع من شجرة جذورها التراتيل نفسها. فالشرق العربي حيٌ وماثل في التراتيل الكنسية هذه، مهما تناءت كنيسة بذاتها عن القدس. وهي التراتيل ذاتها التي أفرد لها الرحابنة إصداراً خاصاً بها في الأيام الحلوة الغابرة التي تبدو وكأنها لا تمتّ لأيامنا بصلة. وما على المستمع إلا أن يقارن بين إصدار الرحابنة ذاك وقطع رخمانينوف بعنوان «صلوات الـغـروب»، أو «طقس القدّيس يوحنّا فـم الـذهـب» كـي يجد تشابهات وتطابقات وأصداء تكاد لا تُحصى. ثم إذا ما وسّع المستمع الدائرة فجرّب القصائد السمفونية «جزيرة الموتى» و«الأجراس» و«الصخرة» والمتتاليت­ين لثنائي البيانوين، ومتتالية «رقصات سيمفونية» للأوركسترا (،1941( خـاتمـة أعـمـالـه، فسيكتشف شذرات من تراتيل الشرق والغرب أيضاً )مــن ترتيلة يــوم الغضب( أقــام عليها رخمانينوف صروحاً سيمفونية شامخة. فالمؤلف، أيّـاً كان، لا يجلس في صومعة انتظاراً للإيحاء علّه ينزل عليه، بل يبحث حثيثاً عن وسيلة يوصل بفضلها مراده للمستمع - وسيلة يتوقّع منها أن تلقى لدى المستمع استجابة مَن يرى صديقاً حميماً لم يرَه منذ زمن ولكن بحِلّة جديدة.

عــنــدمــ­ا أكــمــل رخــمــانـ­ـيــنــوف أولـــى سمفونياته الـثـاث فـي ،1897 قدّمها للجمهور أول مرة المؤلف وقائد الأوركسترا الروسي ألكسندر جـازُونَـوف 1865)- 1936( في أواخـر آذار/مــارس من السنة نفسها، لكن الأداء الأول لم يلقَ نجاحاً لــدى المستمعين، بـل هجوماً لاذعـــاً من جانب صحافيين عدة. وثمة تقرير يفيد أن جلازُونَوف -الذي عُرف عنه إدمانه على الكحول - كان ثملاً قبل أن تبدأ الحفلة. وإذا ما كان ذلك صحيحاً، فلا عجب أن باكورة سمفونيات رخمانينوف لم تنجح، بل أدى فشلها لدى النقّاد، إضافة إلى عوامل أخــرى، منها وفـاة جايكوفسكي المفاجئة فـي ،1893 مَثل رخمانينوف الأعلى في الحياة، ورفض الكنسية زواج رخمانينوف الموعود من خطيبته، ناتاليا، بناء على امتناع أبويها- إلى قنوط عيادي أصـاب مؤلفنا، ومنعه عن التأليف رغم استمراره في العزف وقيادة الأوركسترا والتدريس لكسب العيش، ما جعل خالته تنسّق زيارة له للروائي الروسي المعروف ليو تولْسْتَوي ‪-1910( )1828‬في داره، علّه يفلح في تشجيعه على معاودة التأليف، لكن القنوط ظل على حاله رغم الإعجاب العميق الذي كان يكنّه رخمانينوف لتولستوي. فكان أن اقترحت عليه خالته عناية طبية كـانـت هــي قــد اسـتـفـادت منها سابقاً لـدى صديق العائلة، الطبيب النفساني نيكولاي دال ‪(،1939- 1860)‬الـذي كان عــازف فيولا إلــى جانب امتهانه الطب النفساني. فراح د. دال يعالج رخمانينوف في 1900 يومياً ولمدة ثلاثة أشهر بالتنويم المغناطيسي وبالاستشار­ة النفسانية حتى شفي، وحـن أكمل رخمانينوف تأليف الكونشيرتو الثاني للبيانو والأوركستر­ا في 1901، وجّه الإهداء إلى معالجه. ومن الطريف أن د. دال هاجر إلى بيروت في 1925 وصار عضواً في أوركسترا الجامعة الأمريكية فيها، وكان أن جاء عازف البيانو الروسي أركادي كُوجُويَل ‪)1985- )1896‬ في جولة إلـى بيروت في 1928 وعزف الكونشيرتو الثاني لرخمانينوف بمرافقة أوركسترا الجامعة، ثم توجّه إلى الجمهور وأعلن أن الطبيب الذي شفى رخمانينوف يجلس في قسم الفيولا، فأصرّ الحضور عليه أن يقف كي يتقبّل التصفيق الحاد من الجميع إكراماً له.

وهاجر رخمانينوف هو الآخر بُعيد ثورة 1917 رغماً عن نفسه واستقرّ في نيويورك، لكن روسيا الأم ظلّت تسكنه، سـواء في حياته الموسيقية أو اليومية. ولم يكمل سوى ست قطع طوال إقامته في أمريكا (1943-1918(، وقد علّق على ذلك ذات مرة: «لقد خلّفت ورائي رغبتي في التأليف، إذ إنني حين فقدتُ وطني، فقدتُ نفسي أيضاً.» وظل يفخر بانتمائه لروسيا رغم رفضه لسياسة حكومتها، بل لم يتجنّس بالجنسية الأمريكية حتى الأول من شباط/ فبراير 1943 إبّان الحرب العالمية الثانية. وتكالبت عليه أمراض عدّة فتوفّي في 28 آذار/مــارس 1943 قبل أن يكمل السبعين بأربعة أيام، لكن موسيقاه ما زالت تُعزف كل ساعة في الأقلّ في مكان ما من كوكبنا، ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom