Al-Quds Al-Arabi

الحب والهجرة في رواية «هبني أجنحة» للتونسية عفيفة السميطي

-

«هبنــي أجنحة» الصادرة عن الشــركة العامة للطباعة، هــي الروايــة الأولــى للكاتبة التونســية عفيفة ســعودي الســميطي، وبهــا افتتحــت تجربتهــا الروائيــة بانتظام، تقــع في 195 صفحة من الحجم المتوســط، وصمم غلافها الرسام نجيب شمس الدين.

في هذه الرواية الفاتحة، اختارت الكاتبة أســرة عادية تعيش حياة الخصاصة نتيجة محدودية الدخل والبطالة، أمام هــذا الوضع المزري، ســيضطر راضــي العمل كبائع متجــول مع صديقــه أحمــد، بعدهــا يحــاولان الخلاص الاقتصادي عبــر قوارب المــوت، أما الأخت «زهــرة» التي انغمســت في أحضــان التاجر مــراد، الــذي تخلصت من براثنه بتعنيفه وإهانته، فتضحي بعملها، في وقت تتنفس فيــه فرص العمل من منخر واحد، فــي حين تكون « مريم» قــد دخلت حالة الحب مع يوســف الصحافــي الذي يمثل الرفض السياســي في حفل صديقتها «نوال» التي تجسد التمرد الاجتماعي. وفي الوقت الذي ابتلع فيه البحر أحمد ولا ينجو غير راضي، يدفع «يوسف» ثمن وعيه السياسي برميه في دهاليز المعتقل، لتقتفي آثاره «مريم» بســبب من تلــك العلاقــة التي تربطها به، لكن تســاوقا مــع انتفاضة الســاكنة التي أتعبت مجتمعها الذي يرزح تحت ســلطات قمعية راسخة الجذور.

عمدت الكاتبة، في هذا النص الروائي، إلى جعل ظاهرة الهجرة الســرية فرارا من وطن أحــدب، ومن الحب كقيمة إنســانية نبيلــة. ثيمتان متحكمتان في الخيوط الســردية وباقــي عناصــر مكوناته، ولابد أن نشــير إلــى أننا، حين نقرأ عــن الحب فالمقصــود به هــو أنه ذاك الــذي: «تعجز كل الخانــات على احتوائــه، الحب كالوطــن، لا يقف عند الحــدود». وحين نقرأ عن الهجرة فتعنــي: «فراق الأمهات اللواتــي عجــزن عــن الاحتــواء، بســبب الخــواء، وفراق الوطن، الذي تعود الصمت اليومي».

موضوع الحب

الحــب في الرواية أولا، شــبكة من العلاقات الأســرية، تمتعت به مريم، الشــخصية المحورية فــي الرواية، فحنان الأم «فريدة» والأب «محمود»، يشملها وأختها زينب، كما يشمل أخاهما «راضي».

وثانيــا، حــب الأب للأم التــي بادلته الحب نفســه، بل تبــادلا حبــا لا يدانيه حب فهــي التي تحدث أســرتها كي تربط به ميثاقا غليظا رغم فقره وخصاصته: «أمسك يدها ونظر في عينيها وسألها: ألا زال قلبك ينبض بي يا فريدة؟ نظرت إليه بعتاب وقالت: ألا تشعر بذلك؟ صمت وأطرق « وثالثــا، الحب الصادق بين راضــي وأحمد، هذا الأخير هو من أخذ بيد صديقه كي ينسيه مرارة العطالة، ويورطه معه في تجارتــه المتجولة، لتنتهي هــذه الرابطة بالهروب إلى إيطاليا وابتلاع البحر لأحمد.

وخامســا، علاقة «مريم» بـ«نوال»، وهــي علاقة تنبني على تقديم الدعم والمواســا­ة، فحــن تعجز عائلة مريم عن دفع مصاريــف والدها المصــاب بالســرطان، تكون نوال مخرجا وســاعدا: «توجهت نحو غرفتها وعادت بعد قليل تحمل في يدها حزمة مالية قدمتها إلى مريم «خذي هذه وإن احتجت أكثر فلا تقلقي» ثم سادسا، ذلك الحب المهيمن في الرواية، حب «نبيل» لـ«مــريم» فقد أعجبت به، كما أعجب بهــا، وهو مركب من شــعور نابع من قيم نبيلة وموغلة في جماليتها، وكذا من شــعور بالخوف بســبب الارتباط بصاحب رأي سياسي تهمتــه أنه معــارض وخــارج عن المألــوف، ولــم يكدر من صفــوه وعواطفه الموغلة في التحاب والانســجا­م ســوى اعتقــال يوســف، ثــم من بعــده مــريم، نقــرأ: «إن أحببته فستحبين تمردا لا يسكن .. وإذا عشقته فسيعذبك عشقه، سيشــتد شــوقك له لأنه لن يكون دائم الحضور معك.. إنه رجل مليء بالرجولة، مصاب بالوطن».

إلى جوار هذا الحــب النبيل، تحيك الكاتبة، حبا نقيضا ومنحرفــا، حيــث تحويــل «زهرة» مــن قبل مشــغلها إلى بضاعةٍ معروضةٍ بجسدها وزينتها المثيرة، والتعامل معها كســلعةٍ رخيصةٍ للغواية والفتنة والإثارة: «ســاد الصمت بينهما للحظات قطعته مريم بهدوء: ســتواصلين المحاولة يا زهــرة.. إنه رجــل يفترش النســاء ويغيرهــن كما يغير ملاءات ســريره لا فرق بينــك وبين ملاءة». هذا الســلوك الحيوانــي، لم تستســغ زهــرة مياومتــه، والتعامل معها مجــرد كائن غريزي، بل كائن مســاو لــه، لينتهي بغضب عــارم انتهــى بـ«كانت تنظر إليــه وإلى فمه الــذي يتحرك بعصبية.. وشــيء كالاحتراق يؤجج جســدها ويكبت كل أنفاســها، فكــت أزرار ميدعتها وكورتهــا وقذفتها بكل ما أوتيت من غضب تجاه وجهه المحتقن». الحيونة والذكورة الخشــنة والمهينة نفســها، نقرأها على لســان صوتين من سرب للعمال يعبر الطريق إلى العمل:

الصــوت الأول: «نــام الطفلان واشــتدت بــي الأوجاع فتمددت رغما عني، اقترب منــي فكتمت آلامي خوفا، بعد أن وطأني بصق في وجهي وبرطم غاضبا «لحم مر عطن».

الصوت الثاني: «كنت مثلك.. لا أجرؤ على مسح البزاق من وجهي، يضربني ويقاســمني الفراش ويطأ جســدي وأنا أرتعد من الخوف وأبكي ســرا حتى لا يحطم وجهي.. إلا أنني وبدون أن أختار قدري وضعت حدا لحياته».

انطلاقا من الشاهدين، يمكننا أن ننتهي إلى مواجهتين لهــذا العنف الجســدي، الخنــوع والاستســا­م والدونية كمــا الصوت الأول، والعنف المــادي، كما الصوت الثاني، والعنف لا يولد سوى العنف. بعد هذه القراءة الســريعة لموضوع الحب في «هبني أجنحــة»، يمكــن القــول إن حضــور الحب موضوعا لافتــا للانتباه، تعبيــر عن غيابه وتلاشيه وتمييعه في واقعنا الراهن، وهو شــحن للســرد الروائــي بمــاء عاطفي من شــأنه مواجهة الكراهية والميوعة تخييلا، في مجتمعات ذكورية جائعة عاطفيا.

تخييل الهجرة السرية

يعتبــر موضــوع الهجــرة الســرية مدار اشــتغال الكثيــر مــن الروائيين، ذلــك أنه موضوع الســاعة، ومــادة خصبــة، تمتح مــن عمــق المجتمــع، حيــث منابــع هــذه الظاهرة، خاصة في العشــرية الأخيرة من القــرن الماضي، وقد تناولــت رواية «هبني أجنحــة، هــذه الظاهــرة، غيــر أن الكاتبــة اختــارت زاويتهــا الخاصــة فــي التناول، عندما انطلقت من عمق المجتمع التونسي.. والمتتبع لتجليــات الهجرة غيــر القانونية، سيجد أن المعاناة متعددة الأوجه:

الأول، يجسد معاناة المهاجرين «راضي وأحمــد» قبل قــرار مغامرة ركــوب قوارب المــوت، هــذه المعانــاة يمكــن أن نمثــل لها بالشاهد النصي التالي: «هجرة.. هجرة إلى أين؟ أجاب راضي بالحزن نفسه:

- إلــى أي مكان يمنحي أجنحة، أنا هنا معطب، موقف، أشــعر بغربة وعــي، وخلل وجودي، يشــت بــي الغضب كل يوم وكلما ازددت تســولا، ألا ترين قســاوة العقد التي نبتلعها؟

المعانــاة في ما ســبق، تتجلــى في الهروب مــن الوطن ومــن براثن التهميش والوعي الشــقي، من الغربة والخلل وإجهــاض الكرامــة الإنســاني­ة، والحلــم بالوصــول إلى الجــزء الأكثر عدلاً من الأرض، إيمانــا منه أن الحياة هناك جنة ونعيم.

والوجه الثاني، تجســده لحظــة المغامــرة، ونعني بها اللحظة التي كان فيها راضي وأحمد وبقية المهاجرين على جفن الردى، بــدءا من نقطة الانطلاق حتى نقطة الوصول مــرورا بالبرزخ، ولا شــيء غير الجحيم والغــرق في المياه الزرقاء، أو الخــروج من تحت إبط البحر بالكاد: «وحملت الأمــواج جســد أحمد بعيــدا .. وامتــدت يــداه تجدفان .. واعترضته الأجســاد طافية.. مبعثرة.. فاغــرة أفواهها .. ولاحــت له من بعيد بعض الأجســاد التــي لا تزال تصارع الموج «لا تزال في هذه المقبرة الزرقاء بعض من الحياة .«

أمــا الوجــه الثالــث، فهــو لحظة الوصــول: «وصرخ «الرايــس»: إنهــم حــرس الشــواطئ إقفــزوا.. إقفــزوا .. بســرعة إلى المــاء .. لم يعد الشــاطئ بعيــدا «. إنها لحظة الصدمــة، حيث الدخول إلــى الفــردوس، يتطلب والحذر والاحتيــا­ط مــن الأمن، والاســتعد­اد الدائــم للاختباء عن الأنظار، وحتى الموت في كثير من الأحيان. وعليه، تضاف كل هذه الوجوه من المعاناة الجســدية والنفســية إلى كل أنواع وأشــكال المكابدات التي عاناهــا راضي وأحمد في وطنهــم الأم، من فقــر وبطالــة وتهميش وغيــاب للكرامة الحقوقية.

التشكيل الجمالي

تقدم رواية «هبني أجنحة» موضوع الحب والهجرة غير المنظمة عبر تشــكيل جمالي يتأسس على تقنيات جمالية، فنقرأ الخطاب الشعري الذي يتسلل إلى جغرافية الرواية عبر شــعرنة الســرد: «حبيبتــي.. القضبان التــي بيننا لن تحول دون إســراء روحي إليك.. والسفر عبر عينيك.. إلى كون واســع تشرق فيه شــمس كبيرة.. أكبر من شمسنا.. وأشــد إضاءة»، إضافــة إلى هــذا الوهج الشــعري، نقرأ الخطاب السيكولوجي الذي يتوغل دواخل الشخصيات.

وفــي الوقــت نفســه تنســج الروايــة ذاتهــا بخطاب الرسائل الورقية والصوتية: «عندما خرجت نوال اتجهت مريم إلــى غرفتهــا وفتحــت الظــرف بيدين مرتعشــتين، وجاءت رائحته وشعرت به قربها، «حبيبتي .. لا تحزني، لم يخلق الحزن لعينيك». وجاءها صوت راضي مرتعشــا : آلــو زهرة.. لا لســت زهرة.. من أنت؟ أنــا راضي أخوها.. أين هي؟».

ولكي تؤدي وظيفتها الجمالية في تكثيف ثيمتي الحب والهجرة غير الشــرعية، تقوم الروايــة بتغيير فضاءاتها، لتنقلنــا إلــى الشــارع والمستشــف­ى والبحــر والشــاطئ والمعتقــل والقريــة والطريــق، وكــذا تبايــن الأزمنــة بين الحاضر والماضي والمستقبل المفتوح .

صفــوة القــول، «هبني أجنحــة» كان المولــود الروائي الأول، وفــي إبانــه انتظــر المتلقــي التونســي مــن عفيفة ســعودي الســميطي رواية ثانية لا تقل إتقانا وقدرة على الإمتــاع، وفعــا كان، وأصــدرت الكاتبة لا حقــا روايتين نضجتــا على مهــل، الأولى موســومة بـ«صــدأ التيجان» التــي حصلت على جائزة الكومــار، وهي من أهم الجوائز في تونس، ثــم روايتها الثالثة «غلالات بين أنامل غليظة»، وفــي انتظــار عناوين روائيــة أخرى، تجابه خــداع الوقع وإكراهاتــ­ه، والحلم بواقع كمــا ينبغي أن يكون، كل رواية بصيغة المؤنث، وتونس الروائية بألف حكي وحكي.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom