Al-Quds Al-Arabi

«حزب الله» ومعارك الآخرين

- *كاتب لبناني

ما من شــك بــأن حزب اللــه ومنذ الإعلان عن تشــكيله في فبراير/شباط 1985، وحتى خلال الإرهاصات الأولى التي انتهت بهذا التشــكيل الرســمي، رفع شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، إضافة إلى تبني الشعار الرئيس المحوري للقوى الإسلامية والقوميــة والوطنية آنذاك، وهو شــعار تحرير فلســطين، خصوصا أن ظروف النشــأة والاحتلال جــاءا على خلفية مســاعي إنهاء القضية الفلســطين­ية والقضاء على مقاومة الشعب الفلسطيني.

أي أن الحــزب أعلــن وفي بيان تأسيســه، أنــه ملتزم بمستويين من المقاومة،

الأول: داخلي لبناني في التصدي للاحتلال والعمل على تحرير الأرض.

الثاني: الإقليمي في تبني شــعار ومســار العمل من أجل تحرير فلسطين والقضاء على الكيان الإسرائيلي.

وقد أثبتت مســيرة حزب الله التزاما واضحا في تطبيق هذين المســتويي­ن، بعيدا عما يوجد حولهما من تفســيرات وملاحظــات، قد تكــون موجودة لدى الكثيــر من الاطراف اللبنانية، التي رافــق بعضها الحزب في مســتوى مقاومة الاحتــال حتى عــام 2000 وتحرير الجنوب والانســحا­ب الإســرائي­لي مــن لبنــان، باســتثناء مزارع شــبعا وتلال كفرشــوبا، التــي هي أيضا مثــار تردد لــدى البعض حول لبنانيتها. لا شــك بأن دور حزب الله وقتاله لإسرائيل على المستوى الداخلي ورفع شعار تحرير فلسطين على المستوى الإقليمي، ســاهم في وضع القوى الداعمة لــه إقليميا على خريطة التأثير، وســمح لها في التأســيس لدور واسع في معادلات المنطقة، والطروحات الدولية لحل أزمات الشــرق الأوســط، وقد ترســخ هذا البعد بشــكل أكثر وضوحا بعد حرب يوليو/تموز عام 2006 بين الحزب وإســرائيل، التي لم تكن حربا ذات بعد لبناني داخلي بامتياز، بل لعبت دورا في إعادة تثبيت دور إيران كأحد اللاعبين الأساسيين في الشرق الأوسط، وســاعدت في كســر العزلة عن النظام السوري، الذي واجه عزلة عربية وإقليمية ودولية، على خلفية اتهامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري.

دخول الحزب ميدانيا وقتاليا في الأزمة الســورية، وإن جاء بعد مرور أكثر من ســنة على اندلاعهــا، يؤكد أن الدور المرســوم، أو الذي رســمه هذا الحزب لنفســه لا تقف عند الحدود الجغرافية للبنان، بل ترســخه كمشارك أساس إلى جانــب لاعبين إقليميــن، وإن كان أحد أســباب دخوله في الأزمة السورية من منطلق الخوف الوجودي، وأنه سيكون الهدف التالي بعد ســقوط النظام في دمشــق، إلا أنه ايضا شكل الذراع الأســاس والرئيس للدفاع عن طهران العاصمة الايرانية التي قال عنها مرشــد النظام، إنه في حال سقوط دمشــق فإن المعركة التالية ستكون على أسوار طهران، ولن يكون الدفاع عنها بالامر السهل والبسيط.

تطورات الأزمة السورية، وانقلاب المشهد لصالح النظام في دمشــق، مســتفيدا من تضافر عدة عوامل، روسي على الصعيد الدولــي وإيراني على المســتوى الاقليمي و»حزب الله» على مســتوى الجوار، وضعت الحــزب على خريطة التأثيــر الإقليمــي، وبالتالي النظــر إلى نفســه بأنه أحد المنتصرين في معركة تثبيت المواقع في صراعات المشــاريع الإقليمية، وهــي نظرة ســرت إلى خصومه أيضــا، الذين اعترف بها البعض علانية ويعانــد البعض الآخر على عدم الاعتراف بها.

بعد تثبيــت الوضع الســوري لصالح اســتمرار وبقاء النظام بقيادته، التي بدأت تتمظهــر بخطوات اعترافية من قوى عربية ودولية بهذا الواقع، وبعد شــبه ارتياح لمســار التطورات في العديد من الملفات الإقليمية في العراق واليمن التي تعني الحزب وعمقه فــي طهران، كان لا بد من الانتقال أو العودة بشــكل أدق إلــى التعامل مع الســاحة الداخلية اللبنانية في أبعادها المختلفة. ومحاولة تســييل الإنجازات الإقليمية على الساحة اللبنانية. وهي مساع يجب الاعتراف بأن الحزب مارس فيها الكثير من التروي، وبذل الجهود من أجل استبعاد الصدام المباشــر والعلني مع القوى اللبنانية الأخرى الشــريكة. وإن كانت في غالبية المسائل تنتهي إلى فرض رؤيتــه وإرادته على الآخرين، كما حدث في رئاســة الجمهورية وقانون الانتخاب. وعلــى الرغم من كل هذا، إلا أن هناك أصواتا ترتفع داخل دوائر الحزب والدوائر المحيطة به، مطالبة قيادته بخلــع القفازات في التعامل مع الآخرين، وضــرورة أن يضــرب «رجلا فــي الأرض» ويعبر بشــكل مباشــر وعلني عن موقفه انطلاقا من كونه «المنتصر»، لا أن يتصرف ويتعاطى وكأن شيئا لم يحدث على مستوى دوره وتأثيره، إلا أن هذه الأصوات لم تصل حد التأثير على مسار اســتراتيج­ية الحزب في التعامل مع الملفات اللبنانية ودفع القــوى الاخرى ـ الخصوم ـ للتراجع عــن موقفها والدخول في الحلــول التي يطرحها، وكأنه يســتعيد قــول الخليفة العباسي هارون الرشيد مخاطبا غيمة مرت في سماء بغداد «أمطري حيث شئت فخراجك إليّ». يمكن القول إن الأسلوب أو النهج الذي التزمه حزب اللــه في معركة تأليف الحكومة التي من المفترض أن تنبثق عــن نتائج الانتخابات النيابية التي جرت بناء على القانوني النســبي الذي أراده الحزب علانية، لا يختلف كثيرا عن الأســلوب والنهج الذي تعامل به مع مختلف الملفات التي ســبقت، إلا أن هذه المعركة تأخذ بعدا داخليــا أكثر وضوحا من بعدها الإقليمي، الذي لا يمكن اســتبعاده، إلا أنه أقل تأثيرا في حال استطاع الحزب تأمين الحد الأدنى من هواجســه الداخلية. وهــذا البعد الداخلي يتبلور في تصدي الحزب لمعركــة حاولت القوى والاطراف المتخاصمة مع الحزب خوضها، إلا أنها لم تســتطع الحصول على ما تريــده، ففضلت التنحي والقبــول بما هو معروض أمامهــا، والقبول بالحد الأدنى من الســقوف التي وضعتها لحجم تمثيلها الحكومي. وهــي معركة في حال نجح الحزب في تحقيق ما يريده منها، ستســجل انتصارا له ولخصومه على حد ســواء، فقد بــات الجميع على الســاحة اللبنانية مقتنعا بأن تمســك الحزب بتمثيل الســنة من خــارج تيار المســتقبل، أو ما يعرف بـ»اللقاء التشــاوري» يصوب على هدفين:

*الأول: خلق ثنائيــة داخل الطائفة الســنية على غرار الثنائيات التي ترســخت داخل الطوائــف الأخرى، ثنائية مارونية بين التيار الوطني الحــر وحزب القوات اللبنانية، ثنائية درزية متداخلة بين الحزب التقدمي الاشتراكي وطلال أرسلان يحشــر معه وئام وهاب، ثنائية شيعية بين الحزب وحركــة أمل، تكاد تكــون أحادية، والهدف منهــا منع تفرد زعيم تيار المســتقبل المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري من التفــرد في تمثيل هذه الطائفة، والتحول إلى قطب أوحد داخلها.

*الثاني ولعله الأهم، قطع الطريق على خلق أي بؤرة قد تشكل مصدر قلق له في المرحلة المقبلة، بعد تشكيل الحكومة، التي تتلخــص في منع حصول أي من الاطــراف على تفوق عددي مقرر داخل مجلس الوزراء، من خلال تكريس «الثلث المعطل» لأي من الأطراف في التشكيلة الحكومة، حتى لو كان لأقرب الحلفاء. وهو موقف يدخل في إطار عدم رغبة الحزب فــي تجيير «الانتصــار» الذي حققه إقليميــا لصالح أي من الافرقاء، على حساب دوره يســمح له أن يشكل مصدر قلق له، أو يسعى لتكريس واقع سياســي قد يفرض نفسه على الحزب مستقبلا.

مــن هنا فــإن إصرار الحــزب على عدم حصــول أي من الأطراف على الثلث المعطل داخل الحكومة يمكن القول إنه لا يعتبر معركة الحزب فقط، بل هي معركة كل الأطراف الأخرى المسيحية والإسلامية. فقائد القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي فشل في فرض حصة وازنة له في الحصة المسيحية في مواجهة التيار الوطني الحر، عاد ووافق على ما هو معروض عليه، قد يكون أحد المســتفيد­ين من معركــة الحزب باللقاء التشــاوري، لأن عدم حصــول التيار على الثلــث المعطل، يقطع الطريق على طرح رئيس التيار جبران باســيل كأحد الخيارات لموقع رئاســة الجمهورية، وبالتالي يبقي جعجع في دائرة الطامحين للوصول إلى هذا الموقع. أما زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، أيضا فأرخى مراسيه في التشــبث بالتفرد في التمثيل الدرزي، وبالتالي فان معركة الحزب تصب في رحى علاقته الملتبسة مع العهد وهواجسه من محاولة باسيل تكريس واقع سياسي مستقبلي.

ســليمان فرنجيــة زعيم تيار المــردة، يدخل فــي دائرة المســتفيد­ين من معركة تمثيــل اللقاء أيضــا، وتجعله أكثر اطمئنانا للالتزام الأخلاقــي الذي قدمه الحزب عندما أقنعه بالتخلي عن الترشــح لرئاســة الجمهوريــ­ة لصالح التزام أخلاقي ســابق للحزب مع الرئيس ميشــال عــون، وتدفع لمزيد من عقد تسويات تســاهم في توسيع قاعدته التمثيلية المسيحية المارونية، أبرزها المصالحة التي عقدها مع جعجع برعاية من البطريرك مار بشــارة بطرس الراعي. أما موقف الرئيــس الحريري فيبدو الأكثر التباســا لدى الحزب، فمن جهــة قد يكون الحريري أحد المســتفيد­ين مــن عبء الثلث المعطــل في الحكومة التي مــن المفترض أن يشــكلها، إلا أن الإصرار الذي يبديه فــي رفضه لتمثيل اللقاء التشــاروي يعزز هواجس لــدى الحزب عما جرى الحديــث عنه حول وجود صفقة بين الحريري وباســيل، حــول توزيع الأدوار بين الطرفين، من ضمنها طموحات باســيل في فرض نفســه منافسا أساسيا على موقع الرئاسة.

من هنا فــإن معركة الحــزب لتمثيل اللقاء التشــاوري وما فيه من قطع الطريق على الثلــث المعطل، هي معركة كل الأطراف التي فشــلت في تحقيقها، وبالتالــي فإنها تنتظر بصمــت النتائج التي ستســفر عنها ومحاولــة التعامل مع تداعياتها.

يبقى أن الحزب أمام إشــكالية الحفاظ علــى علاقته مع رئاســة الجمهوريــ­ة، فهو من جهة متمســك بهــذه العلاقة واســتمرار­ها مع التيــار الوطني الحر بما يشــكله من عمق مســيحي له، ويعتبر نفســه أنــه كان صادقا فــي الالتزام بالتعهد الذي قطعه سياســيا وأخلاقيا في وصول الجنرال الرئيس إلى ســدة الرئاســة، إلا أن على باسيل أن يدرك أن المرحلة المقبلة تختلف بظروفهــا ومعطياتها وتطوراتها عن المرحلة السابقة، وأن الحزب قد انتقل من مرحلة الانشغالات الإقليمية إلى مرحلة تعزيز مواقعه الداخلية، وبالتالي فإنه لن يســمح بأن يحقق اي من الاطراف انتصارات في المعادلة الداخلية على حساب إنجازات الحزب الاقليمية.

دخول الحزب ميدانيا وقتاليا في الأزمة السورية، يؤكد أن الدور الذي رسمه لنفسه لا يقف عند الحدود الجغرافية للبنان

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom