Al-Quds Al-Arabi

إحسان الفقيه*

- *كاتبة أردنية

ســأل المأمون أبــا عبــاد الكاتب: بم تســتدل على حمــق الرجل؟ فقــال: إذا رأيت الرجل يحب الشاهلوج )البرقوق( ويبغــض البطيــخ فهــو أحمــق، فدخل عليهما رجل ســأله المأمــون عن البطيخ، فذكر له مساوئه، فســأله عن الشاهلوج فقال: سماه كسرى سيد أجناسه، فالتفت المأمون إلى أبي عباد الكاتب قائلًا: الرجل الذي كنا في حديثه أمس من تلامذة كســرى في الحمق. وهكذا يضيع المنطق من ميزان البشر عندما يُخضعون تقييم الآخرين للذائقة والأهواء والنظرة الأحادية.

فقدنــا المعايير الســليمة الواعيــة في تقييم الأشــخاص والكيانات والدول، فصار كل واحــد منا يُفصِّل معايير خاصة به للتقييم، حتى إن انطلق في الظاهر من أيديولوجية ومنهج، فأصبحنا نزن الآخرين بميزان البطيخ.

أردوغان شــخصية مثيرة للجدل، ليس لشخصه فحسب، وإنما لوقوعه تحت طائلة التصنيفات من الإســاميي­ن، الذين اختلفوا في ما بينهم فــي تقييمه وتصنيفه، وهو ما خلق حالة من التنازع والتراشــق بــن تيارين من التيارات الإســامية حول الرجــل، كلاهما نــأى عن الصــواب. هنــاك اتجاه من الإســاميي­ن يعتبر أن أردوغان - بســبب جذوره الإسلامية ـ يمثــل انتصارًا للحركة الإســامية، ويتعاملون معه باعتباره زعيــم الأمة. هؤلاء يضــرون أردوغان وحزبــه، وهم يظنون أنهم يحســنون صنعًا، فمن الخطأ الترويج لفكرة أن الرئيس التركي يمثل امتدادًا لمشروع إسلامي في الوطن العربي، أو أنه نواة لإقامة خلافة إسلامية على منهاج النبوة، لأنهم يحملون طاولتــه السياســية أكثر ممــا تحتمل، ويمنحــون خصومه فرصة للتحدث عن مشــروع عثماني إسلامي يستوجب الحذر والتنبيه والمواجهة، ســواءً في الغرب أو داخل أروقة الأنظمة الديكتاتور­ية في الوطن العربي. وهذا الاتجاه، رغم بعده عن المعايير الدقيقة الواعية، إلا أنه يلتمس له العذر نوعًا ما، نظرًا لتعطش الأمة الإسلامية إلى زعيم يتعاطى مع قضاياها، خاصة أن لأردوغان مواقف مشــرفة لا ينكرهــا إلا جاحد، إضافة إلى فتح أبواب بلاده للفارين من بطش الأنظمة المستبدة.

مقابــل هذا الاتجاه، يبــرز تيار آخر أكثر تطرفًا، يحاسِــب أردوغــان على تلك الخلفية الإســامية التي رســمها الفريق الأول، ومــن ثم انســلت أقلام ذات نفس إســامي للتشــهير بأردوغــان بدعوى فضــح علمانيته، وادَّعوا أنه أشــد خطرًا من السيســي وابن زايد وابن ســلمان، بزعم أن هؤلاء مكرهم واضح، بينما أردوغان يســتتر وراء الانتصار لبعض المظاهر الإســامية التي لا تعبر بالضرورة عن مجتمع إســامي مثل الحجاب ودور تحفيظ القرآن.

هؤلاء لم يفقهوا حقيقة أن شؤون الأفراد تختلف عن شؤون الأمم، وإدارة الذات تختلف عــن إدارة الدولة، حيث أن للمرء أن يُغلّب جانب الاحتياط والورع مع نفسه، بينما يكون للولاة شأن آخر، حيث الحركة في المســاحات الخضراء التي تركتها الشــريعة، والنظر في فقــه المقاصد والقواعــد الفقهية، وفقه الأولويات والمصالح والمفاســد، فالنجاشــي وهو من التابعين ظل يحكم الحبشة بقوانينهم النصرانية، رغم أنه كان مسلما، وعمر بن الخطاب رأى أن حد السرقة لا يُقام في سنة )مجاعة( بما يعني تعليق الحكم لا تعطيله.

فاتَ هؤلاء المتشــدقي­ن أن أردوغان وفريقــه وجدوا أمامهم ميراثًا ثقيلًا من العلمانية الأتاتوركي­ة التي صبغت وجه الحياة بتركيا، وأن سُــنَّة التدرج تقتضي عدم الصدام مع المألوف، فما يفعله أردوغان أنــه لم يقيد العلمانية، بــل أطلق يد التعاليم والشــعائر الدينية، وترك للتفاعل المجتمعــي ترجيح إحدى الكفتين.

يحملونه مســؤولية بيوت الدعــارة والحانات المرخصة، وكأنها أقيمت في عهــده، ويريدون منه بضغطــة زر أن يزيل مظاهر الانحلال طالما تولى أمور البلاد، متغافلين عن ســطوة العلمانية التي لا تزال جاثمة على الصدور. لقد كان من فقه ابن تيمية تقديره للمصلحة والمفســدة، إذ كان ينهى أصحابه عن الإنكار على التتار وهم يشــربون الخمر، لأنهم إذا أفاقوا قتلوا المسلمين، والظن أن أردوغان لو ســعى لقتل مظاهر العلمانية والانحلال على النحو الذي يريده هذا الصنف من الإسلاميين لأُطيــح به، وغرقــت الدولة في مزيــد مــن علمانيتها. هؤلاء لــم ينظروا إلى أن أردوغــان لا يُغيّر بنفســه، وإنما يعد جيلًا للتغيير، بينما يبقى الجيــل الحالي له حق الرعاية، هكذا قال، وفي ســبيل ذلك يطلق مبادرات لتربية الناشئة، كان منها تلك المبادرة التي أطلقها في أحد مساجد منطقة الفاتح بإسطنبول، حيــث يحصل الطفل على دراجة هوائية إذا ما انتظم في صلاة الفجر بالمســجد لمدة أربعين يومًا، وهي المدة التي تجعل الطفل يألف صلاة الفجر حتى تصير عادته.

هؤلاء تكلمــوا عن الدعارة والخمور فــي تركيا، وتجاهلوا الطفرة الاقتصادية التي أحدثهــا أردوغان وحزبه، يتحدثون أن تغريــدة من ترامــب هزت اقتصــاد تركيــا، وتجاهلوا أن الاقتصــاد ظل صامدًا ضد الصلف والغــرور الأمريكي والتآمر الدولي والعربــي لضرب الليــرة التركية لإعــادة تركيا إلى الحظيرة الأمريكية.

يقول شيخ الإســام ابن تيمية: «فَيَنْبَغِي أَنْ لا يَعِيبَ الرَّجُلُ وَيَنْهَى عَنْ نُــورٍ فِيهِ ظُلْمَةٌ. إلَّا إذَا حَصَلَ نُورٌ لَا ظُلْمَةَ فِيهِ»، لكن هــؤلاء القوم لا يفقهــون هذه المعاني، فحتــى يثبت أردوغان أنه ليــس علمانيًــا، فعليه أن يطبــق الشــريعة، وأن يقاطع الأمريكان والصهاينة وإيران وروســيا، ويعلن حرب التحرير لبلاد الإســام وإلا فليذهب إلى الجحيم. ولا أدري كيف يكون أردوغان عميلًا للأمريكان وطفلهم المدلل، وهو دائم التمرد على التبعيــة لهم، ويعاملهم معاملة الند للنــد، ويبرم اتفاقيات مع دول تعادي أمريكا، ويعارض قرار ترامب بنقل الســفارة إلى القدس والاعتراف بأنها عاصمة للصهاينة.

ولا أدري كيف يتهم أردوغان بســفك دماء الســوريين وهو الذي عمل باســتمرار على إنشــاء منطقة عازلة في الشــمال السوري، وقدم إغاثات للشــعب السوري واستضاف الملايين منهم، وكانــت تركيا من أكثر البلاد دعمًا للمعارضة وأشــدها وقوفًا في وجه النظام في المحافل الدولية.

هؤلاء يريــدون لأردوغان أن يدخل في عزلــة دولية كافح وناضل للخروج منها، يريدون له الصدام مع العالم حتى يثبت سلامة هويته الإسلامية.

على الإســاميي­ن بجميع فصائلهم النظر بواقعية في تقييم أردوغان، فأردوغان ليس شــيخًا، وليس رئيسًــا لجماعة من الجماعات الإســامية، وليس خليفة المسلمين المنتظر، إنما هو رجــل ثبتت وطنيتــه وانتماؤه لبلده والحــرص على تقدمها وازدهارها، وإعادة هويتها الثقافية.

وفي الوقت نفسه ليس أردوغان رئيسًا علمانيًا يفصل الدين عن الدنيا، وإنما هو زعيم مسلم محافظ، يسعى لإزالة العقبات أمام الصبغة الإســامية القديمة لوطنه، ويسعى لتأمين حدود بلاده، والوقوف المشــرف فــي القضايا الإقليميــ­ة والدولية، ونصرة المظلوم وإرساء قيم العدل والأمان والسلام.

تلك نصيحتــي للإســاميي­ن بمختلف توجهاتهــم: عندما تُقيّمــون أردوغان فدعكم من التصنيفــا­ت والأدلجة والتقييم بميزان البطيخ هــذا، وانظروا إلى إنجازاتــه التي لا تجدون معشــارها في بلادكم، وانظروا إلى بعض مواقفه التي توارى حكامكــم عن الإتيان بمثلها، والله غالــب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom