Al-Quds Al-Arabi

وتستمر الهبة الشبابية...

- ٭ كاتب سوداني

أكّد الحراك الجماهيري الشــبابي الذي يهزّ أرض الســودان الآن، أن شــباب السودان ليس، ولم يكن أبدا، مجرد متلق سالب، أو سلعة تتنافس على شــرائها الحكومة وقيــادات المعارضة، كما ظل قــادة النظام يحاولون تصوير ذلك، وإنما هم مشاركون أصيلون، بل هم الطرف الرئيس الذي يملك الحل الصحيح لمعادلة التغيير في الســودان. وأكّد الحراك أيضا، أن الشعب الســوداني، وفي طليعته فئة الشــباب، أصبح واثقا من قدرته على فتح كل المنافذ، حتى يســود الوعي، مستخدما الشعار الســليم والتحليل المنطقي، لرفع درجة الحساسية تجاه الآخر، وتجاه كل ما هو متعلق بالحرية والكرامة والحقوق، ومســتنتجا الإجابات الصحيحة للأســئلة المثارة حول إستمرار الحــرب الأهلية في البلاد ولمــاذا لا تطفأ نيرانها؟، ولمــاذا لا تفضي حوارات ومفاوضات الحكومة ومعارضيها إلى حلول جذرية لمشكلات السودان؟، إلى غير ذلك من الأســئلة الأخرى المتعلقة بفشل نظام الإنقاذ في إدارة السياسة والإقتصاد، وبالفساد المتفشي بصورة ممنهجة ومؤسسة في البلاد، وبضنك الغلابة وشظف العيش وقتامة المستقبل، وبإصرار قادة البلاد على مضاعفة أسعار المواد الضرورية للحياة، كالأدوية، غير آبهين لغضبة الحليم. لكن، كل هذه الأســئلة المثارة، يتخللها الســؤال الرئيس: لماذا يصر قادة هذا الزمان على مقارعة شــعوبهم، فيرفضــون التنحي الآمن ؟. ومتســلحا بالإجابات الصحيحة لهذه الأسئلة، بدأ شباب السودان فصول معركة الحسم، لن تعيقه أي من آليات الفرملة التي يشــدّها النظام، ولن يصيبه اليأس والإحباط إذا تأخرت قليلا لحظــة وصول ردة الفعل الجمعي التي تتــوج الفعل والحراك وتعلن تغيير المشهد السياســي. ونحن، وبما تمليه علينا ضمائرنا وعقولنا وإنسانيتنا وسودانيتنا، لا نملك سوى الإســتجاب­ة لصرخة شباب وفتيان وفتيات الســودان، والوقوف معهم بــكل قوة وصلابة، موقفــا عمليا، ضد تحالف الفســاد والإســتبد­اد، وحتى تتجرع الإنقاذ، رغما عن أنفها، حنظل سياساتها المعطوبة وسوء إدارتها للبلاد، وسقط قول قادتها وفاحشه تجاه المواطن البسيط.

إغترت السلطة بردة الفعل الضعيفة تجاه الدم المسفوح لشباب سبتمبر/ أيلول 2013، والذين خرجوا إلى الشوارع غير مسلحين إلا بهتافات الحناجر ضد زيادات الأســعار. يومها تجشأت الســلطة فرحة حين ظنت أنها أخمدت شــعلة الإنتفاضة، ولم تكن تدري إســتحالة أن تطفــئ جذوتها. وتفاجأت السلطة اليوم، عندما أعلن شعب السودان، صراحة، رفضه مواصلة التفرج على خشبة الحياة وهي تتهاوى في كل بقاع الوطن، وقرر ترجمة هذا الرفض إلى هبة جماهيرية كاســحة، لا يقودها ولا ينظمها ولا يســتغلها أي حزب أو تنظيم سياســي، وحظيت بإجماع شــعبي، ربما الأول مــن نوعه في تاريخ الســودان المســتقل. إنهم ذات شــباب «النفير» الذي هب يومها لدرء كارثة السيول والأمطار، وذات شباب مساعدة المرضى المحتاجين في شوارع أقسام الطوارئ والحوادث بالمستشــف­يات، وذات شباب الصدقات وإفطار الجوعى والمعوزين في شــهر رمضان وغيره، وشــباب جلســات التلاوة والتفسير، وشباب المساجد عقب صلاة الجمعة، وذات شــباب عديل المدارس، وشباب الأنديــة والجمعيات الثقافية، وشــباب فرق «الكورال» الموســيقي­ة والفرق المسرحية...، وغيرهم، تنادوا من كل فج عميق مطالبين بالتغيير لأجل تحقيق ذات الهدف فــي الحرية والســام والعدالة والعيش والكرامة. والشــباب المنتفض في شــوارع الســودان، تخطى وصفات الثنائيات الكلاسيكية، من نوع يمين ويســار، أو رجعي وتقدمــي، أو علماني ودينــي، وغيرها، ليؤكد تمدده ليضم كل الشرائح السياسية والإجتماعي­ة والثقافية والدينية وحركة المجموعات الإثنية والقومية...الخ، وليضم أيضا بعض المجموعات الخارجة على النظام، والتي أعلنت خطل ما كانت تســير عليه، وقررت نفض يدها عن النظام، مبدية إستعدادها للمساهمة في معارك التغيير ومعارك الحفاظ على الوطن. وعلى الرغم من إختلاف المصالح ووجود نزاعات قائمة، مع إتســاع وتنوع هذه القوى، فإن قيادتها لا بد أن تأتي تعبيرا حقيقيا عن هذه التركيبة الجبهوية الواســعة والعريضة، ولا مجال لســيطرة هــذا المجموعة أو تلك الفئة. وفي ســودان اليوم، الوضع لم يعد يحتمل إعادة انتاج خطاب القائد وإيماءات الرعية، ســواء على مســتوى الحكم أو مستوى المعارضة. وزمان القائد الواحد ذي الســلطة المطلقة قد ولى، ومعاملة جماهير الشعب وكأنها قطيع يساق حيثما يشاء الراعي، أصبحت في حكم المستحيل. ولا مناص من القبول بحقيقة بروز أكثر من قائد، فــي أكثر من موقع ورقعة، يمكن أن يعمل مع الآخرين لإحــداث وإنجاز فعل التغيير. ونحن عندما نتحدث عن ضرورة الإبداع والإلهام في قيــادة قوى التغيير، فإن من ضمن مــا نقصد هو كيفية تجسيد التكامل بين تلك القيادات المتعددة والمتنوعة.

أهل الســودان، كغيرهم من شــعوب العالم، تختلف طرائــق تفكيرهم، مثلما تختلف رؤيتهم للأشــياء بإختلاف الزوايا التي ينظرون منها، ولكنهم يسعون لتحقيق ذات الأهداف التي تســمح بتعايشهم السلمي الذي يحفظ لكل منهم تماســكه الوجداني، وكرامته الإنســاني­ة، وتطلعاته الاقتصادية. وحتى المتضررين من ممارســات الســلطة، ورغم ما حل بهــم من ذل وظلم، فإنهــم لا يهددون بحملات «الدفتــردا­ر» الإنتقامية، بــل يتطلعون لتحقيق الأهداف نفسها. وقطعا ستتحقق هذه الأهداف عند بلوغ النقطة التي تتقاطع فيها خطوط الفعل المقاوم الذي يقوم به هــذا الفصيل وتلك الحركة المطلبية وذاك التحالف الشبابي، في المركز وفي الهامش. إنها نقطة التغيير، ومفتاح الإجابة على سؤال السودان إلى أين. فنحن نتوق إلى الديمقراطي­ة والسلام والأمــان، حتى نبنــي الوطن وننعــش التنمية ونؤهل الأجيــال الجديدة. وشــعبنا يطمح الى حياة تقوم على إعلاء شأن الإنســان والقيم الإنسانية الحقيقية. والوطن بحاجة لمشــاركة الجميع للتصدى للقضايا التى توحد كل السودانيين بصرف النظر عن لونهم او دينهم او لغتهم أو معتقداتهم الفكرية والسياســي­ة، وهذا ما إنتبه إليه شباب الســودان، فنزل إلى الشوارع حتى يصبح ذلك ممكنا، وحتى تتحول الحكومة الى جهاز اداري في خدمة الشعب وليس بقرة حلوب على اكواب البعض. وما يقوم به هولاء الشــباب، يجعل المرء يطمئن تماما على مستقبل هذا الوطن.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom