Al-Quds Al-Arabi

تقليب في صفحات «الفاشية الألمانية» غير النازية

- ٭ كاتب لبناني

دخل كاتدرائية نوتردام القوطية وسط باريس وتقدّم إلى المذبح واضعاً مغلّفاً يحوي رســالة، ثم أطلق الرصاص على نفســه. هكذا، في يوم عادي من ربيع العــام 2013 قرّر المؤرخ اليميني المتطرّف دومينيك فينير أن ينهي حياته، عن عمر 78 عاماً، احتجاجاً على تشريع زواج المثليين وضدّ تدفّق المهاجرين على فرنسا وأوروبا.

يومها حيّت زعيمــة «الجبهة الوطنيــة» مارين لوبان ما اعتبرته صدمة لإيقاظ شــعب فرنســا. ومــن يومها، تجهد المجموعات «شــبه وما بعد» الفاشــية فــي أوروبا لتحويل دومينيك فينير، بسيرته كمناضل عنيف ضد الشيوعيين في الخمســيني­ات، وعضو في منظمة الجيش السرّي الإرهابية المناهضة لمضيّ الرئيس شــارل ديغول فــي منح حق تقرير المصير للجزائر والذي دخل الســجن لانخراطه في «انقلاب الضباط» على ديغول، وتحوّل بعــد ذلك إلى منظّر ثم مؤرّخ ملتــزم أيديولوجياً بـ«خط اليمين الثوري»، إلى أســطورة. بحــث الرجل عن مفارقــة المفارقات، وجسّــدها في خطوته «الفدائية»: الانتحار في كنيسة. أرادها مبادرة «نيو ـ وثنية» في قالب «معماريّ كاثوليكيّ».

شــكّل دومينيك فينير، قبل بضع ســنوات من انتحاره، واحدة مــن التجــارب القرائيــة لكاتب هذه الســطور مع ســرديات المؤرخين المنتمين إما إلى «اليمــن المحافظ» وإما إلى «اليمين الثوري» حول حروب ومشــاريع وكوارث القرن الذي مضى. تحديداً ثلاثــة كتب له، «القرن 1914»، و«تاريخ الفاشية الألمانية»، و«ارنســت يونغر: مصير أوروبي آخر»، كان بالإمــكان قراءتهــا بمزيج مــن الاهتمام والاســتمت­اع والاستهجان والاستخفاف. لا تضاهي أعمال دومينيك فينير الكتاب المدهش للمفكر اليميني المتطرف السويســري ارمين موهلر )توفي 2003،) «الثورة المحافظة»، وهو في الأســاس أطروحة دكتوراه أعدّها موهلر، تحت اشــراف الفيلســوف الألماني ـ السويسري كارل ياســبرز نهاية الأربعينيا­ت، هو الذي ظلّ إلى ما قبل مماته يفاخر بأنه «فاشيستي» على منهج )مؤســس الكتائب الإسبانية( خوســي أنطونيو بريمو دي ريفيرا. فكرة موهلر الأساسية أنّ يميناً ثورياً نشأ في مرحلة مــا بعد الحرب العالميــة الأولى، وكان من أعلامــه في ألمانيا ارنســت يونغر واوزفالد شــبنغلر وتوماس مان وارنست نيكيش وكارل شــميت، وتذبذب بين النزعة المتشــائم­ة من أفول الحضارة الغربية وبين مســاعي التصدّي لهذا الأفول، وتــراوح بين مناهضة البلشــفية في جانــب ومحاكاتها في جانب آخر، كما في نزعة «القومية ـ البلشــفية» التي انتابت جــزءا من هــذا اليمين الثوري، لا ســيما في حالة ارنســت نيكيش. ولئــن رأت هذه «الثــورة المحافظة» في الفاشــية الإيطالية خيراً، وفي ديموقراطية «جمهورية فايمار» شــّراً، يحاجــج موهلر بــأنّ «القومية ـ الاشــتراك­ية » (النازية( لم تكن بنت هذه «الثورة المحافظة» بل تحوير ومســخ لها، هذا على الرغم من أن موهلر نفســه فرّ من الجندية السويسرية خلال الحرب، وعبر الحــدود بقصد التطوّع في منظمة «فافن اس.اس» العســكرية النازية، ولم يقبل طلبه حين وصل إلى برلين!

كذلك لن تجــد عند دومينيــك فينير هذه القــدرة الفذة عند مــؤرّخ «محافظ للغاية» مثل ارنســت نولته، في وصل التاريخي بالفلسفي، ســواء في عمله الكلاسيكي «الفاشية في حقبتها»، أو في عمله الإشكالي «الحرب الأهلية الأوروبية 1917 ـ 1945»، والــذي خلــص فيه إلــى أنّ النازية ما كانت لتنتصــر في ألمانيا لولا الخطــر الذي مثّلته البلشــفية على أوروبا، وبالذات على أوروبا الوســطى والشرقية، من بعد خروج البلاشفة منتصرين بالحرب الأهلية الروسية.

لم ير نولته أن الحرب الأهليــة الأوروبية تبدأ مع اندلاع «الحرب الكبرى» نفســها عام 1914، بل اندلعت مع استيلاء البلاشــفة على الســلطة في بتروغراد. ركّــز اهتمامه على الوصل بين الحرب الأهلية الروسية «الشاملة» وبين الحرب الأهليــة الألمانيــ­ة التي بقيــت «جزئية»، منذ هزيمــة المانيا بالحرب في خريف 1918 واجبــار جنرالاتها القيصر غليوم الثاني على التنحي في هولندا تحت ضغط الشارع، واندلاع انتفاضة «السبارتاكي­ين» في برلين بعد ذلك، والعمل المشترك لحكومــة الاشــتراك­يين ـ الديمقراطي­ين المعتدلين والعســكر وفرق «الفرايكورب­س» المســرّحين من الجبهات، والمتطوّعين مجدداً على شكل ميليشــيات، هذه المرة في الداخل، لسحق الشيوعيين، واغتيال قادتهم، من أمثال كارل ليبكنخت وروزا لوكمســبور­غ في 15 كانون الثاني 1919، واســتمرار­اً مع كل منعطفــات «جمهورية فايمــار » وحروب الشــوارع الليلية، شــبه اليومية، في المانيا العشرينيات، بين الشيوعيين وبين «الروابط القتالية » اليمينية المتطرفة.

لم يكن الربط بين الخطر الشــيوعي وبين انتصار النازية في المانيا ما أثــار حفيظة معظم المؤرخين والــرأي العام في المانيــا بوجه نولتــه )توفي 2016(، بل جنوحــه إلى تقدير «رابطة ســببية» بين معســكرات العمل الجماعي القســري الســوفيات­ية )الغولاغ( وبين معســكرات التحشيد والإبادة النازية، كما لو أنّ الأخيرة وجدت كردّ على الأولى.

ما يتميّز به دومينيك فينير فــي المقابل هو وصله كمؤرخ مؤدلــج ومتطرّف، بين حركة الصراعات في كل من روســيا، والمانيا، وفرنســا، بنفس القــدر من الإهتمــام والإلمام، من دون أن يخفــي في أي لحظــة إنحيازه الواضح لما يســميه «الفاشــية الألمانية»، بخاصــة في كتابه عنهــا الصادر عام 1996. هذه الفاشية الألمانية، بالشــكل الذي يبيّنه، لم تنشأ كردّ على الثورة البلشفية مباشرة ولا على «الغولاغ» (نظرية ارنســت نولته(، بل على الخطر الشيوعي في برلين نفسها، في خريــف 1918، مع انتفاضة الســبارتا­كيين، بقيادة كارل ليبكنخت وروزا لوكســمبور­غ، وليس أبداً لأنّ السبارتاكي­ين كانوا يماثلون البلاشــفة، بل لســبب معاكس تماماً، هو أنه في وقت ســيتبين قدرة البلاشــفة على الخروج بمظهر منقذ الإمبراطور­ية القيصرية، وإن بحلّتها السوفياتية، فقد بقيت السبارتاكي­ة للفوضوية أقرب، وشــكّلت خطراً على المجتمع والأمة في ألمانيا في آن.

من الصعب على أي يساري أن يقنع نفسه بقراءة «تاريخ الفاشــية الألمانية» لدومينيك فرنر، التمجيدي إلى حد بعيد لقتلة روزا لوكمســبور­غ وكارل ليبكنخت، ونحن اليوم على عتبة المئوية الأولى لتصفيتهما من قبل رفاقهم الســابقين في الحزب الإشتراكي ـ الديموقراط­ي الألماني.

مع هذا، أنت حيال ســردية تفسّر، من موقع أقصى اليمين، لماذا هُزِمَ السبارتاكي­ون الألمان بعد عام على انتصار البلاشفة في روسيا، ولماذا انهارت في نفس الوقت، بنتيجة هذا المصير المختلف، كل تصورات البلاشفة حول اندلاع الحريق الثوري في المانيا. فــي وقت، لم يكن مقدّراً فيه، فــي نهاية التحليل، لـ«اشــتراكي معتــدل» مثل الكســندر كرنســكي الا تعبيد الطريق عملياً في روســيا لسيطرة حزب البلاشفة، استطاع «كرنســكي المانيا»، فردريش ايبرت أن يعاكس هذا المصير. تمكّن «الاشتراكي المعتدل» من سحق الاشتراكيي­ن المتطرفين. من جهــة لأن وراءه بيروقراطية حزبية ونقابية كبيرة، ومن جهة ثانية لأنه مؤيد من العسكر ومن المتطوعين في ميليشــيات «الفرايكورب­ــس»، موئل اليمين الثوري الألماني.

يبقــى أن فينير اســتعاد «حيلة» تعظيم قدر «الفاشــية الألمانية» في العشرينيات، للتبرؤ من النازية في الثلاثينيا­ت والأربعيني­ات. يعرض بحماســة شــديدة، كتاب شــبنغلر «البروسياني­ة والإشتراكي­ة» الصادر عام 1919، مباشرة بعد ســحق الســبارتا­كيين. في هذا الكتاب، يعتبر شبنغلر أن ما أصاب المانيا بنهاية الحرب، كان «ثورة الحماقة البرجوازية» من جهة )الاشــتراك­ية المعتدلة(، و«ثورة الدناءة والدهماء» من جهــة ثانية )الســبارتا­كية الشــيوعية(، فــي حين أنّ الاشــتراك­ية الحقيقية هي «اشــتراكية آب 1914»، وأن هذه «لفظت أنفاسها الأخيرة على الجبهة». عند شبنغلر أن الألمان اشــتراكيو­ن بالفطرة، تمامــاً مثلما أن الانكليــز ليبراليون بالفطرة، وأن الإشتراكية الحقة، «البروسيّة»، هي تلك التي بدأت مع فردريك الكبير، حين أكد على أنّ «الملك ليس الدولة، بل الخادم الأول للدولة»، وانتهت مع رحيل الإمبراطور فلهلم الثاني.

لا يمكن التعامل مع سرديات المفكرين والمؤرخين اليمينيين المتطرفين كما لو أنها غير موجودة، أو كما لو أنها «هزل ليس أكثر». ســواء تعلّق الأمر بموهلر أو نولتــه أو فينير، قراءة هذه الأعمال فيها منفعة. لا ينفع مع هــذا التبرؤ من النازية، واعتبارها تطفلاً على التاريــخ الذي يعتبره أمثال موهلر أو فينير مجيداً للفاشــية الألمانية و«الروابــط القتالية» وفكر شبنغلر ويونغر، وإن وجب التمييز.

ففي نهاية الأمر، انقسم أرباب «الثورة المحافظة» الألمانية حول النازيــة. بعضهم نفر منها ســريعاً، وبعضهم ســوّغ لهــا إلى وقت متقــدّم، إلا أنّ النازية تبقى بنــت هذه الثورة المحافظــة، وبمثابة نزعتها «التطبيقية» الأساســية. ولأجل ذلك، تبقــى النازية أيضاً بنت هذا الحــدث الذي يطل علينا بمئويته: تواطؤ الاشــتراك­يين ـ الديمقراطي­ين مع العســكر والفرايكور­بس، لتصفية كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ. هذا الحدث «لخّص مســبقاً» قســماً كبيراً مــن تاريخ القرن الماضي.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom