Al-Quds Al-Arabi

أسئلة الأدب والواقع

- أمير تاج السر *

بعــد 11 إبريل/نيســان الماضــي، أي بعــد ســقوط النظــام المظلــم، واندلاع فرحــة كبرى لــدى كل الناس في الســودان، وأعني ممن مســهم الضر، وحرموا من خير وطن كله خير، أردت أن أطرح مســابقة في القصة القصيــرة للموهوبين من الشــباب، كل يكتــب عن تلك الأيام ومــا قبلها من ترقب وأرق، ومــا يتصوره بعدها من ترقب جديد، وأحلام تتم صياغتها أدبيا.

أردت فــي الحقيقة، أن أجد للأدب موضعا هو الآخر فــي خطة بناء وطن جديد مختلــف تماما عما كان عليه في السابق، ومعروف أن الســودان لم يترك ليحتضن أهلــه بالكامــل إلا أوقــات قصيــرة منــذ الاســتقلا­ل. الــذي حدث أنني أحسســت بخطأ ما فــي ذلك الطرح، فالشــباب الذين تحملوا قســوة إشــعال ثــورة قاتلت نظاما متعمقا فــي الجلوس على ظهر الوطــن، ما زالوا مشــغولين بإكمــال ثورتهــم، التــي وجدوهــا بحاجة لإكمــال منذ الوهلــة الأولــى، وقبل أن تختفــي عبارة» تسقط بس»، التي لازمت الثورة عن الأذهان والألسنة، وأي إضافــة لها علاقة بالإبداع، حتــى لو كانت مهمة، ستعد ترفا بكل تأكيد، وقد تكون مجرد مسابقة تطرح نظريا بلا أي تفعيل حقيقي.

هنــاك كثيــرون بــا شــك ســتعجبهم المســألة، وســيودون أن يشــاركوا فيها، فقط ليس ثمة ما يمكن قولــه، أو إدراجه من أحــام، وكل حلم تتــم صياغته، قابــل لأن يموت مباشــرة، وحتــى قبل ولادتــه. الذي أردت قولــه، وتذكــرت أننــي قلته مــن قبل فــي بداية ثــورات الربيــع العربــي، التــي خاضتهــا دول أخرى شــقيقة، وحين شاهدت كما كبيرا من الأعمال الروائية والقصصية، تكتب عن تلك الأحداث، وفيها اســتعجال كبيــر، إن الكتابــة الإبداعية باســتخدام تلــك الأجواء، غالبا لن تنجح ما لم تستقر الأمور، أو على الأقل نعرف اتجــاه الحلــم، وفــي أي واقع سيرســي، وهــذا الأمر يحتاج وقتا بكل تأكيد. فحــن تكتب عن النضال مثلا، ســتكتب أشــياء معروفة ويمارســها الناس يوميا في حياتهم، وحين تكتب عن الحرب والدمار، والســجون، والتعتيم والقتل، فأنت أيضا تكتب حقائق، لا تستطيع أن تضيــف إليهــا إبداعيــا إلا القليــل، نعم ســتكتب أن مجــزرة حدثت، ومواطنــن ماتوا أو فقدوا، وشــوارع غاصــة بالفوضى والــدم وجنون العظمــة، وقد تتذكر قصيــدة حماســية لأمــل دنقــل، أو صادمة من شــعر محمــود درويش، ولكن أين حياة الوطن التي من أجلها هبت الثورة؟

أيــن الأحــام المصاغــة فــي الشــعارات: حريــة، ســام وعدالة؟ ومن الذي سيســأل عــن التنكيل بتلك الشعارات، ومتى؟ وكيف؟

إنها أسئلة حارة جدا وحزينة وصعبة، لكنها ليست أدبية في أي حــال من الأحوال، فلــن يجيب الأدب عن ســؤال خاص بالواقع، كما لن يجيب الواقع عن سؤال خاص بالأدب، فكل له أســئلته وأجوبته، وقد شاهدنا الأم عايدة، وقد حملت صورة لابنها الطفل أحمد، الذي اغتيل بآلة القمع، وجلســت في وسط المعتصمين، هي فــي الحقيقة رغم صمتها كانت تســأل ســؤالا واقعيا: من يجيء بحق ابني؟ هو ســؤال خاص بالواقع وليس بالأدب، أيضا شــاهدنا أســرا لضحايا عديدين فقدوا في الثلاثــن عاما الأخيرة، يحملــون الصور والصمت وأسئلة الواقع التي تنز من نظراتهم.

كذلك ذكــرت وأثنــاء قراءتي لبعض أعمــال الربيع العربي، إننا لا نريد أن يبدو الأدب عجولا وهو يشارك، نريده أن يشــارك ولكــن بتعقل ورويــة، وقد وضحت ما أعتقــده من دوره فــي مقالي الســابق. نعم على من يريــد أن يكتــب نصوصا عــن التغيير ينبغــي أن يكون ملما بكثيــر من الأحــداث، وملما بكثير مــن التأويلات قبل أن يخــط نصا، فليس كل من هتف أو ردد شــعارا مناوئــا، أو رفع علامة النصر فــي وجه كاميرا متجولة في الشــوارع والميادين، وهو يبتســم، قادرا على إنتاج عمل أدبي جاذب للقراءة، ومؤرخ للأحداث بحيث يقرأ كوجبة مهمة، غنية بالمعرفة.

حتى الكتاب المخضرمون أنفســهم، رغم انغماسهم الطويــل فــي درب الكتابــة عــن القضايــا الكبــرى والصغرى، يحتاجون لتلك الانشــغال­ات المهمة قبل أن يبــدأوا كتابة نصوص، وربما احتاجــوا لرؤية الأماكن التي جرت فيها بعض الأحداث ليرسموها بدقة، وحين تُكتــب نصوص جيــدة بعد ذلك، ســتوضح وجهة نظر الأدب المتأنية في ما حدث، من دون إجابة صريحة عن أسئلة الواقع الكثيرة المتشعبة. وقد يكون الأدب عاجزا عن الرســو علــى وجهة نظــر ثابتة، ما دامــت الأحلام متأرجحة، ولا تدل على وجهة ما.

عموما تبدو مادة الثورات والانتفاضا­ت والحروب، غنيــة بشــكل مــا، ذلك الغنــى الــذي تصنعه المأســاة، ودائما ما ينظر للمأســاة فــي بلادنا باحترام شــديد، بعكس النظر إلــى الفرح والابتهاج، وهــو أيضا ضرب من ضــروب الحياة، أي شــخص ســيحس بالدهشــة وعدم التصديق، حين تخبره عن وفاة شــخص يعرفه، وقد لا يحس بأي شــيء، ولا تخرج منه سوى ابتسامة صغيــرة، حين يســمع بــزواج شــخص يعرفــه أيضا، والجميع ســيصابون بالبؤس حين يرون صورة شيخ يبكي، وســتتقد كثير من الأســئلة في ذلك الشأن، لكن مجرد ضحكات مســتخفة ســتصدر حين يرون صورة لذلك المسن وهو يضحك. ولو تأملنا الأغنيات الشعبية في كل بلادنا العربية، فلن نســتخرج منها ســوى عدد قليل يمجــد الفرح، ويدعو إلى البهجــة، بينما معظمها، بكاء وأنين وفراق، حتى الأغنيــات التراثية التي تمجد الأبطال، ســتمجدهم في الغالب بعد أن يموتوا، وبذلك يمتزج الفخر بالدمع.

مع ذلك لن نقــول إن الكتابة في زمن تأرجح الأحلام ممنوعة، هي ليست ممنوعة أبدا، فقط لن تكون بالتأثير ذاته، كما لو كانت في زمن آخر، وبالنسبة للمسابقات، مؤكــد ســنعيد طرحهــا حــن ينتهــي الناس مــن دفن موتاهم، واستئناف حياة راسخة نوعا ما.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom