Al-Quds Al-Arabi

«ديسفيرال» للعراقي نوزت شمدين: سلطة التخييل السردي في تعرية الواقع

- مروان ياسين الدليمي٭ ٭ كاتب عراقي

مــع أن اســتراتيج­ية المؤلــف مــن حيــث تقنيات الســرد، اعتمــدت على تعــدد وجهات النظر )التبئير( حســب مصطلــح الناقد جيرار جينيــه، إلاَّ أن المحتوى الإنســاني فــي رواية «ديسفيرال» يســتحوذ على النصيب الأكبر في بنيــة خطابها الفني، وخيار الركــون إلى تقنية الروايــة البولوفوني­ة باعتبارهــ­ا صيغة فنية قائمة على تعدد الأصوات الســاردة للأحداث، جاء موفقا فــي تكوين المبنى الدلالي لمتن الرواية الحكائي، فبالاضافة إلى السارد العليم، تتناوب الشــخصيات الرئيســة الثلاث على الســرد: زاهدة، سليم، جابر.

هذا الخيار الأســلوبي وضعَنا في مناخ أقرب إلى أن نكون شــهودا على وقائع جريمة بشعة، عنوانها مرض الثلاســيم­يا، هــذا إلى جانب أنه حمّل الأصــوات الســاردة دلالــة مزدوجة في وظيفتها السردية، فهي الشــاهد والضحية في آن، بغيــة الكشــف عن لحظات قاســية تمر بها الشــخصيات في رحلة مخاضهــا للخروج من عذاباتهــا، ومن خلال هذا الدور المزدوج ســعى المؤلــف إلــى أن يوصل للقارئ عمق ومســاحة الألم الذي يتركه مرض الثلاســيم­يا على الطفل المريــض «جابر» وعلــى الدائــرة المحيطة به، وتحول هذا الألم إلى رحلة مضنية من الشــقاء بحثا عن أمل ضعيف للشفاء منه، وبينما ينهش المرض الطفولة البريئة، يمارس الحزن دوره في نهش حياة الأم والأب، وكأننــا نقف أمام رحلة عبثية شــبيهة برحلة ســيزيف بطل الأسطورة الإغريقية وهو يحمل صخرته على كتفه، محاولا أن يصعد بها إلى قمة الجبل، رغم فشــله ولأكثر من مرة في الوصول إليها.

تدور أحــداث الروايــة في مدينــة الموصل العراقيــة، حيــث يخضــع مجتمعها لأشــكال مختلفة من الســلطات القهرية، جميعها تمارس القمع ضد رغبات وتطلعات الإنسان في العيش سليما وآمنا، فالقبيلة تمارس حضورها المهيمن على عائلة مجيد آل ســعيد حتى بعد أن تستقر في المدينة، نتيجة خلافه مع شــقيقه عزام على زعامــة القبيلة «لم يخــف غناها وســكنها في مدينة الموصل من ارتباطِها المغناطيسي بالقرية وتقاليدها. وكان منزلها نســخة مقاربة لمســكن العائلة الكبير فــي قرية النور، بطابقين وحديقة أمامية وباحة واسعتين وجدران عالية، تحولت حديقتــه الخلفية إلــى حظيرةٍ حافــظ التعداد الحيواني فيها علــى بقرة حلوب ســدَّ ضرعُها المنتفخ أفــواه الجيــران بحصــص يومية من الحليب الطازج وأســبوعية مــن الجبن ..». كما تنمو داخــل المدينة جماعات دينيــة متطرفة لا تتوانى عن استغلال الدين بشكل بشع لتحقيق مصالحها، حتى أنها تسلب من سليم المبلغ الذي جمعه لعلاج ولــده جابر في الهند، وتمارس الضغط عليه بعد اختطافــه لأجل أن يجمع لهم مــا يريدونه مــن أموال. وكما هو أســلوبه الذي يتميز بــه، يُفرغ نــوزت شــمدين ســخريته الذكية من ســلطة الخرافات التــي تلعب دورها فــي تســطيح وعــي الناس وإفراغ رؤوسهم من التفكير، عندما يلجــأون إليها لحل ما يواجهونــه مــن مصاعب في حياتهم.

جدلية السرد والواقع

تعيدنــا هــذه الرواية إلى القاعدة الذهبية التي نهضت عليهــا الفنــون الإبداعيــ­ة بارتباطها الوثيق مع الواقع، ومع مــا يكابــده الإنســان فــي حياته اليوميــة، بمعنى تأكيدها على أن جدلية العلاقة بين الفن والواقع، وإن اختلفت الرؤى الفنيــة والتقنيات بين المبدعين، ورواية «ديسفيرال» تعبير عن شدة ارتباط المؤلف بالزمــن الذي يتفاعــل معه، ولم تقتصــر علاقته على فهم وتفسير الواقع بقدر ما تذهب بعيدا في كشــوفاتها الفنية إلى مســتويات من النقد، سعيا إلى فضحه وإدانته وتجاوزه، وقد تجلى ذلك في لغة ســردية عبّر مــن خلالها عن وظيفتها الجمالية، ولم ينزلق بها إلى مســتوى المقولات المباشرة التي من الممكن أن ينساق إليها الخطاب الروائي عندما يتصدى لموضوعات ذات مرجعية واقعية بهدف نقدها.

انفرد الراوي العليم بحضوره في الصفحات الأربعين الأولى من الروايــة، وكان إجراء تقنيا مُخاتــا أدخلنا المؤلف بواســطته إلــى العالم الواقعي الــذي يحيــط بالشــخصيا­ت، وإلى فكرة الانتظار المحورية التــي تحيط بهم بكل ما تفرضه من لعنة قدرية على وجودهم الإنســاني في الحياة «مــا أن أعلنت القابلــة عفاف تحقق نبوءتها، وأن المولود المنتظر ذَكَر حتى رفع سليم الُمترقب في الخارج يديه إلى الأعلى ثم هبط بهما مشيرا نحو حشــد من الجيران زرَعَهم الانتظار منذ ســاعات في الحديقــة مانحــا الأذن ببدء احتفال استمرار ذرية آل سعيد ». ارتبط الانتظار مع الأب مجيد آل ســعيد، وهو يحلم بالمشــيخة منتظرا الســاعة التي يخطفها من شقيقه الأكبر عزام، ومــع زاهدة التــي بقيت تنتظر عشــرة أعوام حتى تزوجت من ســليم، وأكثر من ســتة أعوام إلــى أن رُزقت بابنها جابر، وبقي ســليم معلقا على عتبة الانتظار ما تبقى من حياته بعد ولادة ابنه جابر، لعله يشفى ويتعافى من مرض الثلاسيميا. والانتظار هنا ليس له دلالة دينية، بقدر ارتباطه بالوجود الإنساني للشخصيات، باعتبــاره رهانا لا مناص مــن التعلق بخيوطه الواهية.

المتن الحكائي

ســليم الابن الوحيد بين أربع شقيقات يدفع ثمن العداوة القائمة بين والده مجيد آل ســعيد وعمــه عــزام نتيجــة صراعهما على مشــيخة القبيلــة، فيتاخّــر زواجه من ابنــة عمه زاهدة عشــرة أعوام بســبب هذا الصــراع، ولا يتردد في أن يخــوض معارك مع كل الذيــن يتقدمون لخطبتها، ويســقط والد زاهدة برصاصة تبدو طائشــة، أثناء احتفــال القريــة بانتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991 ويتم تقييد القضية ضد مجهول، ولكن سليم يعترف أمام زوجته زاهدة في مرحلة متأخرة من أحــداث الرواية، إنه هو الذي أطلق الرصاصة حتــى يتمكنا من الزواج. وتحمل منه مرتين لكن حملها يسقط، ثم يحصل الحمل الثالث ويولد ابنهمــا جابر عام 1997 في ذروة الفترة التــي كان فيها العراق محاصرا من قبل المجتمع الدولــي، وكان الناس يكابدون من أجل لقمة العيش. وبعد ســتة أشهر من الولادة يتضح أن الطفل مصاب بمرض الثلاســيم­يا، أو فقر دم البحر الأبيض المتوسط، ويقتضي هذا أن يتم تزويده بالدم مرة واحدة كل ثلاثة أو أربعة أســابيع، لأن جســمه غير قادر على صنع الدم، وبعد فترة يتم حقنه بدواء اســمه ديســفيرال تحت الجلد معظم أيام الأسبوع بواسطة مضخة خاصة، وهذا العلاج يرافق المريض طوال عمره، ولكي يبقى على قيد الحياة يجب أن يحصل على الدم وأن يتم إفراغ جســمه من الحديد المتراكم. وليس أمامه من فرصة للنجاة ســوى أن تجرى له عمليــة زرع نخاع خــارج العــراق، على أن تؤخــذ العينة من شــخص آخر، لكنها ليســت متاحة بســبب الحصار المفروض علــى البلاد. وبعد أن تكفلت إحدى الجمعيات بإرســاله إلى إيطاليا لغرض العلاج، لم تجــر العملية بعد أن اتضــح للطبيب الإيطالي الــذي تكفل بإجرائها أنه لا يوجد تطابق نســيجي مع عينة النســيج النخاعي التي اخذت من شــقيقه الأصغر إيثار. ومع ذلك يعيش جابر أعواما إضافية، ويتجاوز العمر الافتراضي الذي حدده الأطباء وليســرد لنا حكايته.

الواقع والشخصية الروائية

يعتمد بناء الرواية بشكل أساس على عنصر الشــخصية، ولعلها أبــرز العناصر، ومن خلال حركتها يتم تصوير الواقع، والعمل الروائي في جوهره ينهض على خلق الشــخصيات وابتكار ملامحها الداخليــة، اعتمادا على مخيلة المؤلف، والشــخصية حتى لو كانت مستلة من الواقع إلاّ أن المؤلف ما أن يســحبها إلى عالمه حتى تنقطع صلتهــا بعالمها الواقعي، حيث يبــدأ في تفكيكها وتكوينها من جديد وفقا لمخيلته ورؤيته الفنية، بمعنى أنها تصبــح مقطوعة الصلة عن البواعث التــي انطلق منهــا، ولم يعد لها وجــود واقعي إنما وجودها تخييلي، فتصبح لها سمات فردية خاصة نســتدل عليها من أقوالها وأفعالها أثناء السرد، وشــخصية ســليم على ســبيل المثال ربما نراهــا في لحظة ما صــورة أو نموذجا عن الأب وهــو يقاتل من أجل أن ينال ابنه الشــفاء مــن مرض قاتل، لكــن هذه الصــورة لن تكتمل بشــكلها النهائي إلاّ بعد أن تنتهي عملية السرد، فشخصية ســليم رغم واقعيتها إلا أنها لا ترتبط بأي صلة مع الشــخصية الواقعية التي عادة ما تكون في الحياة مؤطرة وفق منظور عام يفرضه المجتمع عليهــا، وفي رواية «ديســفيرال» تبدو الصعوبة في بناء شخصيات متخيلة لها امتداد وثيق مــع الحياة الواقعية، بمعنــى أنها لم تكن صورة نمطية للتعبيــر عن نموذج واقعي، وهذا يبدو واضحا في بنائها الُمرَّكب «لم يكن سليم ذلك الشخص الذي انتهى إليه هادئا صبورا، صوته الخافت لا يكاد يُســمع وملامحه الدقيقة وديعة كطفل عالق في حلم، فســيرته مليئــة بتقلبات وهزّات حياتية عنيفة، اضطرته لاتخاذ قرارات مصيريــة تبيَّنَ في بعض منهــا أنها كانت مجرد عقوبــات انتقامية فرضها بمحــض إرادته، بل قاتل من أجل إيقاعها على نفســه، حياة بمراحل متضــادة مارســت فيهــا شــخصيته محكومة بالظــروف أدوارا متعددة، ســتبدو حتما لمن لا يعرفه وكأنها لأشــخاص عديديــن متصارعين، وليســت لواحد عاثــر حظ وقليل شــكوى كما وصفته أمه .»

نسج لنا نوزت شمدين سردا روائيا بخيوط ناعمــة جدا تفاصيــل دقيقة عن حيــاة الأطفال المصابين بمــرض الثلاســيم­يا، وارتفــع بهذه التفاصيل التــي التقطها بما يمتلكــه من خبرة وممارســة فــي الصحافــة الاســتقصا­ئية إلى مقاربة فنية شــذّبت حدودهــا الواقعية، فخلق لنــا عالما روائيــا يتأرجح بين الواقــع والحلم، وقد نجح كثيرا فــي أن يتموضع عميقا في وعي الشــخصيات، ويعبر عن وجهة نظرهم، فأنتج لنا قراءة فنية امتزج فيها الواقعي مع اللاواقعي بالشكل الذي تماهت فيها الخطوط الحادة التي تفصــل الحلم عن اليقظــة، عبر حكايــة الطفل جابر، فقــدم لنا لمحة إنســانية بتفاصيل دقيقة عندما يعيش الإنســان حياتــه متعلِّقا بخيوط من الأمل، بينما يقبع تحــت ظرف عصيب أقرب في ســخونته إلى الجحيم. فكانت جرعات الدم التــي يأخذها جابــر من الأشــخاص المتبرعين تشــطر حياته إلى عالمين، عالم واقعي يعيشــه بكل عذاباته بسبب المرض والعلاج، وعالم آخر من أحلام يقظة جميلة يعيشــها من بعد أن تحل ذاكــرة كل متبرع بالدم فــي ذاكرته بما تختزنه من تواريخ وأسماء وأحداث ورغبات: «تمنحني دمــاء البعض منهم طمأنينة وســاما وعشــقا للحياة، فيندرس وجعــي وأتعايش مع مرضي بأمل في الشفاء أو بدونه. وفي الأسبوع الثالث عندما يبــدأ دمي بالتضاؤل وتتســارع نبضات قلبي لتعويض النقص

الحاصل أشــعر بحزن هائــل يجتاح صدري يشــبه الحزن على موت شــخص حبيب. وهو ما يحدث حرفيا. يموت المتبــرع القديم، يتوقف نبضه ويختفي صوته ولا تبقى منه سوى نسخة ذكريات يحتفظ بها رأســي المزدحم. يأخذ محله متبرع جديد بدمائه ونقضي سوية عمره القصير في داخلي. وبتعاقب أكياس الدم صار جســدي محطة دخلها العشرات، ذكورا وإناثا وسار بهم إلى وجهته غير المعلومة قطار عمري

المتعــب». وظيفــة الحلــم هنا تتحــول إلى نص سردي يتداخل فيه الشــعور باللاشعور، واســتثمار­هذه التقنية جاء في ســياق إبراز ما يشكله الحلم من مســاحة مهيمنة في شخصية جابر كلما اشتد عليه مرضه. «ديسفيرال»: نوزت شمدين دار سطور للنشر والتوزيع - بغداد الطبعة الاولى 2019 عدد الصفحات 256

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom