Al-Quds Al-Arabi

شخوص في ذاكرة أمير الحلو

- ٭ كاتب من سلطنة عُمان

آلاف الوجــوه تتزاحــم منها الحقيقي والآخــر تفــن واحترف ارتــداء الأقنعة، ومع تقلــب الفصول ومــوت أجزاء منها هنــاك دائما وجوه عصية على النســيان تشــيخ الذاكــرة، وهــم حاضــرون فــي الزوايا لا يرحلون، وهكذا هم «شخوص في الذاكرة» للكاتب والصحافي العراقي أمير الحلو، كما عنوان كتابه الصادر عام 1996، ويســتل فيه من الذاكرة إضاءات وتوثيقا لمواقف وشــخصيات في الأدب والفــن والسياســة، لهــم بصمــات على الروح. ترك الكاتب ذاكرته بشــخوصها على الصفحات ورحل في عام 2015. يقولون ليلى بالعراق مريضة.. ســكنت الســطور الفنانة التشــكيلي­ة ليلــى العطــار بملامحهــا الســومرية، وقامتهــا كنخلة عراقية أصيلة، وبشــعر أســود طويــل، وعينــن كحلهمــا ليــل العراق، وكان التعارف الأول بينها وأمير عــام 1972، ومنــذ ذلــك الحــن أصبحا أصدقــاء، ومع بــدء العــدوان الأمريكي علــى بغــداد 1991 جمعهــم أحــد أيــام القصــف الشــديد، وقد انحشــر الجميع فــي إحــدى الغــرف والممــرات، ويتذكر فــي تلــك الليلــة الــروح المرحــة التي لم تفارق ليلى، نجت ليلى مرة عندما ســقط صاروخ كروز أمريكــي على منزلها، ولم تنج في المــرة الثانية.. يقول أمير واصفا لحظــة تلقيه خبــر استشــهاده­ا: «بينما كنت نائما في ليلة حارة اســتيقظت على أصوات قصف شــديد لم أستطع تحديد هدفــه، وعندمــا جــاء الصبــاح ذهبــت إلــى الدائرة، واستفســرت عــن القصف فســمعت إجابات تحدد الموقــع بالقرب من دار ليلــى، واتصلت برقمها المباشــر فأجابني رجل سألته عن ليلى فقال إنها مدفونة تحت انقاض دارها بعد أن سقط صاروخ عليها فــي تلك اللحظة تمنيت أن تكون ليلى مازالت حية ولكن.»

ومن ضمن شــخوص الذاكرة السيدة فيــروز التــي أطلــت كشــهرزاد، وهــي تــروي حكاياتهــا التــي تســمر أمامهــا شــهريار، وانهــزم ســيافه )مســرور( أســرت فيروز بغنائهــا العــراق في تلك الليلــة مــن عــام 1976 منشــدة رائعتهــا «بغداد والشــعراء والصور» وكل ذبذبة صــوت مــن حنجرتها تحيل ليــل العراق إلــى نهــار.. كان أميــر الحلــو مســؤولا عن ترتيــب حفلات فيــروز فــي العراق، وزياراتهــ­ا ومــن ملاحظاته خــال لقائه بالســيدة فيروز أنها خجولــة في الكلام رغم جرأتهــا على المســرح، وأن منصور الرحبانــي كان يجيــب علــى الأســئلة الموجهــة لها خــال المؤتمــر الصحافي، ويصــف حادثــة اعتراض عاصــي على غنــاء فيروز قائــا: «فــي البروفة حينما بدأت فيروز الغناء وفي منتصف الأغنية تقريبا أشار عاصي الرحباني إلى الفرقة الموســيقي­ة بالتوقف عن العزف، فســاد القاعة الصمــت، وإذا به يصرخ في وجه فيروز مؤنبا إياها على تصرفها باللحن، ولم نكن نحن المســتمعي­ن قد شعرنا بأي تغير، ولكنه كملحن استفز من خروجها على ما هو مرســوم لها، وهنا شــخصت الأنظــار إلى فيــروز، وهي شــامخة على المســرح لرؤيــة رد فعلها فــاذا بها تحني رأســها، وتقف بخشــوع وكأنهــا طالبة مدرسة في حضرة أســتاذها، وتقول له بهــدوء: اعتذر يا أســتاذ، وأخــذت تردد هــذه الكلمة ردا علــى كل كلمــة يوجهها لها، فطلب منها إعــادة فأجابته: حاضر أســتاذ، وقد اســتغربت طريقــة تعامله معها، ولكن يظهر أن هذا هو أســلوبه، إذ لم يجد أي اســتغراب لــدى الآخرين من أعضــاء الفرقة، ومن منصــور الرحباني الــذي كان يجلــس إلــى جانبــي وعندما انتهت البروفة، ورجعنا الفندق جلســنا إلــى مائدة العشــاء فلم أجــد أي رد فعل على موقف عاصي.

أمــا عــن ابنهمــا الموســيقا­ر زيــاد الرحباني فيقول:

لاحظــت أن ابنهــا الفنــان زيــاد الذي كان عازفــا في الفرقة الموســيقي­ة لم يكن يســتغل كونــه ابــن عاصــي الرحبانــي وفيــروز، إذ كان يجلــس ويــأكل دائمــا مــع زملائه فــي الفرقة، وقــد رفض مرة أن ينضــم إلــى مائدتنــا علــى الرغم من أن فيــروز نادتــه. كان الحــرص علــى شــخصيته واضحا، فهو لا يريد أن يقال إنه ابــن الرحباني وفيــروز فقط إنما هو فنان حقيقي صاعد.

لم يغب عن الذاكــرة المناضل والأديب الفلســطين­ي غســان كنفاني الذي عرفه أميــر عــام 1963 حينما صــدرت جريدة «الوحدة» العراقية، واســتعانت بغسان كمشــرف فنــي علــى إصــدار الجريدة، وتوطدت الصداقة والزيارات بين بغداد وبيروت منها زيارته لبيت كنفاني ولقائه مــع زوجتــه آنــي.. ويذكــر أنــه زاره في بيروت حينمــا كان رئيس تحرير جريدة «المحرر» اللبنانيــ­ة، ولفت انتباهه أنه في شدة انشــغاله بين الضيوف والمراجعين والاتصالات كان يســرق الوقت وســط الزحام ويكتب قصصه القصيرة.

ويتذكــر الدمشــقية العتيقــة الأديبــة غادة السمان

تلــك «الغجريــة» التي تاهــت في مدن الصقيــع، واحتفظت بحــرارة الوطن في داخلهــا. ســمراء بشــعر أســود طويل وأظافــر كالمخالب وعيني بومة.. يصفها ويقول «طيبة وودودة وسرعان ما يشعر الإنســان بالألفة والمحبة في مشــاعرها وعواطفهــا» جمعت غــادة صداقة بأمير وزوجته المذيعة العراقية ابتسام عبدالله وطافت معهمــا محافظات ومدن العراق مــن كربلاء إلــى بابــل والنجــف. يقول في أحــد الأيام أبــدت غــادة رغبتها في زيارة مدينة الألعاب لأنها تشعر بضيق، واختــارت أخطــر الألعــاب وفســر أمير اختيارهــا وصرخاتها أثنــاء صعودها اللعبة بأنها «كانت تريد إخراج المحبوس في صدرها، وأنها تشعر الآن بالراحة».

كانت صفحات الذاكرة أشــبه برحلة طيران شــيقة أمير قائدها والشــخوص هــم الــركاب كانــوا مبدعين، ومــن كافة المجــالات، وإلــى جانــب الأســماء التي ذكرناهــا تجــد أيضــا المخــرج يوســف شــاهين والممثــل المصــري كــرم مطاوع والفنــان يوســف العانــي رائد المســرح العراقــي، والأســتاذ عصــام الملائكــة شــقيق الشــاعرة نازك الملائكة، والعديد من الأســماء التــي تدخل بسلاســه إلى عوالمها، وبعض خفاياها.

قــد تخوننــا الذاكــرة يومــا ونصبــح غربــاء عن أنفســنا، ومن حولنــا الصور تخلد الأشــكال والكتابة تخلد المواقف.. فاكتب عن نفســك وعن من تحب قبل أن تنسى فحتى الذاكرة قد تخوننا أحيانا.

 ??  ?? أمير الحلو
أمير الحلو
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom