Al-Quds Al-Arabi

لهذا يقتلع بن سلمان السلفية الوهابية

- إحسان الفقيه* * كاتبة أردنية

«العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثــر عظيم من الدين على الجملــة». هكذا يمضــي رائد علــم الاجتماع ابــن خلدون في تقرير لــزوم الصبغة الدينية لاجتماع العرب وتملّكهم، من منظور ما يعرف اليوم بالاجتماع السياسي، ويرى ابن خلدون أن السبب في ذلك خُلق التوحّش الذي يجعلهم أصعــب الأمم انقياداً بعضهــم بعضا، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافســ­ة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهَبَ خُلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم.

لقد استفاد آل ســعود من هذه الحقيقة الُمقررة، ووطدوا نفوذهم من خلال الدعوة الدينية لمحمد بن عبد الوهاب، حتى في عهد الدولة الســعودية الثالثة، التي أسسها عبد العزيز آل سعود، إذ اعتمد في توسيع رقعة نفوذه في الجزيرة وتوحيدها تحت إمارته على حركة «إخوان من أطاع الله»، التي تأسست في نجد، وتنتهج منهج محمد بن عبد الوهاب، فكانت عماد قوات الملك المؤسس والسبب الرئيسي في توحيد الجزيرة، ولكن حدث الشــقاق بينهمــا بعد ذلك، حيث كانت الحركة تتجه لمواصلة جهادها في العراق، وهو ما عارضه عبد العزيز آل ســعود بقوة، ما أدى لاندلاع المعــارك بينهما، كان آخرها معركة الســبلة التي خســرت فيها الحركة بعد تدخل ســاح الجو البريطاني.

إلى هنا ســيفترق القراء في نظرتهم لصنيع الملــك عبد العزيز، فمنهم من ســيصفه بالعمالة للإنكليز، واســتغلال الحركة الدينية لتحقيق أهدافه السياسية ثم التخلص منها بعد أداء دورها، ومنهم من ســيعتبر قتاله إياهم حقا مشــروعا، على اعتبــار أنهم خرجوا عليه، ولست هنا بصدد تحرير المسألة، ولكن ما يهمني التركيز عليه هو تلك الثنائية - التي تحدثت عنها في مقابل سابق- بين السلطة والدعوة في تاريخ المملكة، السلطة السياسية لآل سعود، والسلطة الدينية للسلفية السعودية التي يســميها البعض بالوهابية، لماذا انفصمت عراها؟ فرغم السياق التاريخي الذي يشير إلى المحاولات التدريجية للسلطة لتقويض نفوذ الدعوة، إلا أنها لم تفقد مكانتها، على اعتبار أنها القوة الناعمة للنظام السعودي، التي صبغت وجه الحياة في الســعودية بالصبغــة الدينية المحافظــة، ولكن في ظل القيادة السعودية الجديدة التي يتزعمها الملك سلمان وصفًا، بينما القيادة الفعلية لولي عهده محمد بن ســلمان، ظهر التوجه الجديد السريع لاقتلاع جذور الســلفية )الوهابية( من الحياة السعودية، ولا يحســن القارئ أنني أتحدث تحديدا عن تيــار الصحوة الذي توعــده بن ســلمان بالقضاء عليــه، وإنما أقصد النهــج الوهابي الســلفي عموما، فحتى الصحوة لها أصول ذلك المنهج نفســه. لقد أظهر ولي العهد نواياه في )لبرلة( المجتمع الســعودي ســيرًا على خطــى محمد بن زايد، وقطعًــا يحتاج في ذلك إلــى مواجهة التيار الإسلامي الأصولي بكل فصائله ورموزه، تحت مزاعم القضاء على التطرف وتجفيف منابع الإرهاب.

أنشأ بن سلمان قبل عامين «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف، الــذي أُطلق عليه «اعتــدال» وذلك في قمة الريــاض التي حضرها الرئيس الأمريكي ترامب وعاد إلى بــاده منها بأكثر من 400 مليار دولار. قام ولــي العهد تحت هذا الغطاء باعتقــال العلماء والدعاة المعروفين بوســطيتهم، ونبذهم للعنف والتطرف أمثال، عبد العزيز الطريفي وســلمان العودة وعلي العمري وعوض القرني وغيرهم. كما قام بن سلمان بتقليص صلاحيات الحسبة )هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( التي لازمت كل حقب المملكة، كخطوة على ســبيل إلغائها نهائيا. وقام بإنشاء الهيئة العامة للترفيه كإحدى مخرجات رؤية 2030، لتدخل الســعودية عهد السينمات والمسارح المختلطة، كان آخرها افتتاح صالة ديســكو في جدة، أثارت سخط وسخرية جماهير سعودية وعربية إســامية، خاصة مع الترويج لها بعبارة «ديسكو حلال ». كما اتفق ولي العهد مع السادة الأمريكان على تغيير مناهج التعليم السعودية، بما يتوافق مع الرؤية الأمريكية للإسلام الوسطي، وهو ما صرح به وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون، حين أكد على إنشــاء مركز مكافحة التطرف كأحد نتائج قمة الرياض، وبيّن أن الســعوديي­ن اتخذوا خطوات بشــأن نشــر كتب دراســية جديدة تحل محل المناهج القديمة. ولكن لِمَ يســعى بن ســلمان لتغيير الصبغــة الدينية الوهابية الســلفية، وإحلال الليبرالية والإسلام المفرغ من محتواه مكانها؟

الجواب يكمن في العلاقــات الأمريكية الســعودية، التي بنيت على صفقة الحماية الأمريكية مقابل النفط الســعودي، لكن أمريكا في الوقــت ذاته لا تخفــي قلقها من التيــار الوهابي الســلفي في المملكة، باعتبــاره يمثل الأصولية الإســامية ذات النظرة العالمية للإســام، والغرب يدرك جيدًا أن ما يعــرف بالوهابية اتجاه ينزع إلــى الرجوع للأصل والمنبع، وهناك رســالة قديمــة بعث بها جان ريمون قائد المدفعية الفرنســي في حلب إلى وزير خارجية نابليون بونابرت عام 1808، قال فيها بشأن محمد بن عبد الوهاب: «واعتمد صاحب الدعوة الجديدة القرآن في كل صفائه، وتم حذف الأحاديث والروايــا­ت التي أضيفت لإملاء حياة النبــي بالأعاجيب، وأراد أن يُنظــر إلى النبي كرجل حكيم وعادل فقــط، فعلّم أتباعه أن العبادة هي لله وحــده، وأن كل من يقــدس الأنبياء والأوليــا­ء ويعطيهم صفات هي للخالق يكون مذنباً بحق الجلالة.»

ولم يُخف الغرب مخاوفه من الأصولية الإســامية، التي يمثلها في الســعودية التيار الســلفي الوهابي، فالمستشــر­ق الإنكليزي لورانس يقول: «إن وجود حركة إســامية متحمسة كالوهابية في الأراضي الإسلامية المقدســة خطر حقيقي على مصالحنا وأهدافنا، لأن أطماعها واسعة إلى حد إثارة فطرة الإيمان في نفوس المسلمين، ما يعني العودة إلى حضارة الإسلام.»

أمريكا تــرى أن تغيير هذا الوجه يلزم الســعودية كشــرط في القبــول الأمريكــي والغربي لها، وتشــهد لذلك التقاريــر العديدة التــي أعدّتها مراكز البحوث الأمريكية التــي تمثل الصيغة الحديثة للاستشــرا­ق، وتخدم صناع القــرار، وفي ضوء تقاريرها ترســم الإدارة الأمريكية ملامح سياستها تجاه العالم الإسلامي.

وفي تقريــر لها بعنوان «إســام حضاري ديمقراطي، شــركاء وموارد وإستراتيجي­ات»، تعرف مؤسسة راند الأمريكية الوهابيين السعوديين بأنهم «يقدمون نظرة عدائية توسعية لإسلام لا يستبعد اســتخدام العنف، ويرغبون باستلام زمام الســيطرة السياسية، ومن ثم تطبيق الإســام وفقاً لمنظورهم الخاص»، ويضيف التقرير أن مذهبهم «لا يتماشــى بشــكل عام مع قيم المجتمع المدني والرؤية الغربية للحضارة والنظام السياسي والمجتمع.»

وتحذر في تقرير آخر لها بعنوان «العالم المسلم بعد 11 سبتمبر/ أيلــول» من الوهابية في الســعودية وقطر، وتصفهــم بالرجعيين وتتهمهم بالتطرف الديني، ويقول التقرير «كان للتمويل السعودي وتصدير النســخة الوهابية من الإســام على مــدار الثلاثة عقود الماضيــة التأثير - ســواء بقصد أم لا - في تحفيــز زيادة التطرف الديني في العالم الإســامي»، ويضيــف: «وأصبح تصدير الأموال المكون الأساسي في نشر الوهابية، في جهد لنشر الهيمنة السعودية على الإسلام». كما أن هناك تقريرا لمركز مراقبة التهديدات، جاء فيه: «المذهب الوهابي هو المذهب الإسلامي المتشدد الذي ظل يهيمن على المملكة منذ ســبعين عاماً، والذي يقدم تبريراً دينياً للإرهاب». فتلك هــي نظرتهم للوهابية، وبناء على ذلك، وفــي ضوء ارتماء القيادة الســعودية في أحضان الأمريكان، كان على بن ســلمان أن يشــق طريقه نحو الســير في فلك النمــوذج الأمريكي بمواجهة الأصولية الإســامية، أســوة بولي عهد الإمارات، الذي لم يدخر جهدًا في أن يكون رجل أمريكا الأول في المنطقة، بينما يمثل الثالوث «بن سلمان وبن زايد والسيســي» الأعمدة التي يُبنى عليها المشروع الأمريكي الجديــد في المنطقة وصفقــة القرن لتصفية القضية الفلســطين­ية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom