Al-Quds Al-Arabi

شباب عصر التكنولوجي­ة الفائق

- د. نورالدين ثنيو* * كاتب وأكاديمي جزائري

الحراك في الجزائر أصبح يرادف موعداً للجيل الجديد في الســاحات والميادين العامــة، باعتبارها أفضل مكان للتكوين السياســي والوعي الثقافي، بقيمة وأهمية الإنسان والمجتمع والدولة والعالم في سياق واحد.

فالخاصية الجوهرية للجيل من الشــباب الجزائري أن تكنولوجيــ­ات وتقنيات التواصل والتحاور هي قاســمه المشــترك بامتياز، ولا أحد يشــذ عن ذلك. وجود المعلومة والتعليق عليها فــي لحظة فورية واحــدة، صاغا عقلية جديدة تســتطيع أن تتبــادل الرأي والمشــورة، وتصدر المواقف بالقدر الذي تعّبر عن الحــراك كله. وبتعبير آخر يفيد المعنى نفســه، أن التعبير عن الحراك ككيان وإمكان سياسي وثقافي يعزى بالأساس إلى الجيل الجديد، الذي يُعْرف بجيل التقنيات، التي أعانته في التغلب على آليات وتلاعبات السلطة ومناوراتها في طمس الحقائق وتزييف وعي الجماهير. فالتقنيات التي يتواصل بها الجيل الجديد هي بمثابــة المتاريــس والحواجز في عصــر الإضرابات والاعتصامـ­ـات والمظاهــر­ات المناهضــة للاســتعما­ر والرأسمالي­ة البغيضة.

يمثل الحراك السياســي في الجزائر رهانا كبيرا لجيل التقنيات، ومدى قدرته على الظفر بالمطالب السياســية، التي يجري الحديث عنها في المجالات والفضاءات العامة. فقد جاء هذا الجيل من صلب المعارضة السياســية، التي توســلت تقنيات الإعلام والاتصال، بمنآي عن الخطابات الرســمية المخاتلــة، وبعيداً عــن ممارســات و»تقاليد السلطة» التالفة. فمنذ أكثر من عقدين طلّق قنوات الدولة، ولــم يحفل إطلاقا بما يرد فيها، بل صارت وســائل إعلام الدولة هي لإعلام ممثلي الســلطة، تُطْلع أعضاء الحكومة على نشــاطهم في خرجاتهم الميدانية، وباقي البرامج هي لتمجيد فخامــة الرئيس وسياســته البروتوكول­ية. فقد تحوّلت قنوات الدولة إلى نشرة داخلية على عهد الحزب الواحد، تطلع المناضل على أخبار الحزب ونشاطاته. جيل التقنيات لم يكتف فقط بســنوات التعليم، ولم يلتزم بها حرفيا، بل ســاير منظومة تكوينية أخرى يتحصَّل على ما يريده فعلا، ولا يزيد لأنها تكفيه، ولأنها أسهل أيضا.

الحديث عن الجيل هو حديث جديد في موضوع قديم. فمن جملة الموضوعات التي تداولها الفكر المعاصر موضوع «الجيل» كإشــكالية يمكن ضبطها على خلفيــة عَقَدية أو أيديولوجية أو فلسفية. فقد شهد القرن العشرون أجيالا متتالية من القادة والمثقفين والشباب والفلاسفة والثوار، ومن المنظومات التعليمية والرياضية والسياسية تختلف من حيث الأجيــال، لكن الغالب في جيــل التقنيات أنه لا يبحث عن القيــادة ولا الزعامة، ويروم التكوين القاعدي علــى التعليم المعمــق أو البحث الأكاديمــ­ي الرصين لأن العبرة كل العبرة هو سوق الشغل والعمل وتأمين الحياة في شروطها الإنسانية، أي الحد الأدنى الذي يقبل البناء عليه. وتقنيات الإعــام والتواصل الاجتماعي هي أفضل من يحقق ذلك، وأحســن من يســاعد على تمتين القاعدة الاجتماعيـ­ـة والثقافية المشــتركة. ولعّلنــا لا نزايد على الحقيقة عندما نقــول إن منظومــة «ل. م. د» جاءت فعلا للتجــاوب أكثر مع جيــل التقنيات، جيل جديد تشــهده الدنيا كلهــا ويتواصل مع بعضها وكأنــه ينتمي إلى قارة واحــدة. فجيل التقنيات، بهذا المعنــى هو جيل عالمي بكل ما للكلمة من دلالــة، وظاهرة قابلة للتكيــف والتوظيف في كل مناحــي العالــم ومجالاته. تفيد فكــرة الجيل أن هناك حالة اجتماعية تشــكلت واكتملت نشأتها، بحيث لا يمكن دحضها أو الافتئات عليها، لأنها تأسست ولا تسمح لغيرها أن يناوبها الفعل الاجتماعي والسياسي. فقد كانت أول عبارة صــدرت عن الحراك هي « يروحــوا جميعا»، بالمعنى الذي يشير إلى أن جيل السلطة قد ترهّل، ولم يعد يســتحق المكان ولا إدارة شؤونه، بل عليه أن يبتعد تماما عن السلطة ولا يعيق إمكانية تســلمها من الجيل الجديد جيل التقنيــات. في الفضاء العام الذي يجري فيه الحراك يكتشــف جيل التقنيات نفســه كقوة وطــرف وفاعل في عملية سياســية كبرى، لا تقرر مصيره فحسب، بل مصير نظام الحكم أيضا. فقد صنع ذاته ككيان قائم بذاته يشــهد له بقايــا النظام بأنه مصدر الســلطة الحقيقية، ولا يكف عن تبجيله وتعظيمه، ومن ثم فهو يمثل ظاهرة جديدة لم يكن ليدركها أو يعيها نظام سياســي خائب استغلق عليه ما يجري في المجتمع والعالم. فقد كانت درجة الوعي التي وصل إليها جيل التقنيات على ســلّم التكوين الإجتماعي والسياسي، أنه يســتطيع فعلا أن يعَدَّل من مسار تاريخ الجزائر ومصيره، ويوقفه على أهم عتبة ترافقه إلى إزالة النظام التســلطي ليس في الجزائر فحســب، بل ظاهرة «النظام التســلطي» حيثمــا كان في العالــم، خاصة منه العالم العربي، المنتج الأول لهذه الظاهرة.

إن تجربــة ثلاثة عقود مــن «الســلطنة» كانت كافية لكي يســتكمل جيل التقنيات دورتــه التكوينية، وينزل إلى الســاحات والميادين العامة، يمارس سلطته مباشرة من أجل تعديل الوضع السياســي، على أمل إرساء معالم مؤسســات دولة القانون والحق. وهو ما يدفع إلى إعادة النظر في طريقتنا في التحليل والتفكير في ما نريده، وما ينبغــي أن نكون عليــه. فالكثير منّا لا يــزال يفكر بعقلية مواجهة النظام القائم، وكأنه يملــك القدرة على الخروج على إرادة الشعب، ويضع في اعتباره أن السلطة يمارسها جيل التقنيات في الفضاءات العامة تحســبا للوصول إلى لحظة ممارســتها ضمن مؤسســات الدولــة، عبر مرحلة انتقالية يكون هــو الفاعل الحقيقي مــع آخرين بطبيعة الحال. فمــا نراه ونلحظــه وكأن الحــراك حالة وتمثيل الفاعلين السياســيي­ن حــال أخرى، لا بل مــن رحم جيل التقنيات يرسم المشروع مع مسائله.

الحقيقــة، أن مع جيل الشــباب، الذي يمثــل خاصية مشهد الحراك العام في الجزائر، نلج كلّنا، مجتمعا وبقايا النظام، مرحلة مناوبة الحكم، يتســلّم فيها جيل التقنيات العهدة مــن بقايا النظام، الذي لم يعُد له فقط إلا تســليم آمن للســلطة لأنها آخر مهامه. ففي سياق مقاومة سلمية ونضال مســالم يقودهمــا جيل التقنيــات لا يملك النظام أو ما بقي منه إلا توفير المناســبة اللائقة لتقديم الســلطة التي تتلاشــى من يده يوميا لصالح الحــراك، تجبره في نهاية المطاف التســليم بــأن عهد النظــام الأوتوقراط­ي، الاســتبدا­دي قد ولّى دونما رجعة، وأفضل وأسلم طريق لتلافــي الأزمة الحادة والمأزق الصعــب هو تناوب الحكم بشــكل ســلس وناعم على ما توحي بــه وضعية الحراك وطبيعته. حقيقــة أن بقايا النظام يتهيأ لتســليم الحكم للجيل الجديد، لا يعبر عن لحظة رومانسية، ولا عن تطلع طوباوي، بل عن وعي حاد بقيمة وقوة الحراك ذاته، الذي نأى بنفســه عن جسد السلطة المريض منذ عقد من الزمن. والمرض حقيقي لنظام الحكم عاند في البقاء ولكن غالبته السياســة وصحّة الشباب جيل التقنيات الذي كان رائده وهاجسه تجاوز صورة «دولة العرش في النعش.»

في سياق مقاومة سلمية يقودها جيل التقنيات لا يملك النظام أو ما بقي منه إلا تقديم السلطة التي تتلاشى من يده لصالح الحراك

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom