Al-Quds Al-Arabi

القتل والأعياد والنيل الأزرق

- د. الشفيع خضر سعيد٭ ٭ كاتب سوداني

■ في السودان أضحت ثلاثية القتل والأعياد ونهر النيل الأزرق ممســكة بتلابيــب أرواحنا، تعذبها وتأبى الفكاك منها مــا لم تتحقق العدالة وينال القاتل العقاب العــادل الملائم لما اقترفته يداه من جريمة القتل خارج إطار القانون. والثلاثية هذه تتجسّــد دائما في كنف سطوة سدنة الإسلام السياســي، حكاما أو جحافل ثورة مضادة متعطشــة للانتقام. إن انتهاك القانون والإفلات من المحاســبة والعقــاب، من الظواهر الأولى المســببة لانهيار الدولة، ولا معنى لأي نشــاط أو حراك نتبنــاه، إذا لم يكن منتبها لهذه الظاهرة. أما إذا أغمضنا أعيننا عن تجاوزات انتهاك القانون والإفلات من المحاسبة لصالح المكاســب السياسية فسنكون مشــاركين أصيلين في الجريمة. وبالعودة للثلاثية، نقول، في شــهر رمضان، عام 1990، عشــية عيد الفطر المبارك، نفّذ نظام الإنقاذ البائد جريمة اغتيال ثمانية وعشــرين ضابطا من ضباط القوات المســلحة السودانية، إثر اتهامهم بمحاولة تنفيذ انقلاب عســكري على نظام البشير، المخلوع الذي، وللمفارقة، ما تربع على السلطة إلا عبر انقلاب عسكري عام 1989.

وعشــية عيد الأضحى المبارك، عام 1998، وفي معسكر خاص بالتجنيد الإلزامي، بمنطقة العيلفون، إحدى ضواحي الخرطوم، ضمّ عددا من الطلاب والتلاميذ، طلب الطلاب من إدارة المعســكر السماح لهم بقضاء عطلة العيد مع ذويهــم، فرفضت الإدارة وهددتهم بتوقيع أقصــى العقوبات عليهم إذا حاولوا عصيان الأوامر. وعندما استنكر الطلاب القرار وتجمعوا محتجين ومستنكرين قســوة وتعنت إدارة المعســكر، طلب القائد المسؤول، والذي كان يتبــوأ موقعا قياديا في حزب المؤتمر الوطنــي الحاكم آنذاك، ويجلس الآن على كرسي دبلوماسي ممثلا للســودان في المنظمة الإقليمية العربية، طلب من جنده الأشاوس اتخاذ موقع الاستعداد للمعركة ولخوض الحرب الضروس، ثم أصدر أوامــره بإطلاق النار على الطلاب المتجمهرين، لتمزّق نيران المدافع الرشاشــة أجســادهم النحيلة، وهم عزلا إلا من دهشة الفزع المرتسمة على وجوههم، لحظة الاستشهاد.

حصد الرصاص أرواح 140 من طلاب وتلاميذ المعســكر، وبعضهم قضى غرقا في نهر النيل الأزرق، أو مزّقهم الرصاص وهم يحاولون الهرب سباحة في النهــر، لتختلط أجســادهم ودماؤهم الطاهرة بميــاه الأزرق الدفاق، ودفنوا ســرا، بليل، بدون إبلاغ ذويهم. أسدل الســتار على الجريمة، ولم نسمع بأي تحقيق حولها، ومرت من دون أي عقاب، بل كوفئ المسؤول عنها.

وفي شــهر رمضان من العام الجاري، عشــية عيد الفطر، أرسل المجلس العسكري الحاكم، وحســب اعترافات ناطقه الرسمي، كما جاء في مؤتمره الصحافي المذاع والمتلفز، أرسل جحافل قواته الأمنية لتمزّق أجساد الشباب وهم نيام، والذين اعتصموا أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية محملين بعشــم أن تحميهم هذه القوات من بطــش كتائب الموت، ولكنها لم تفعل بل شــاركت في المذبحة، كما جاء في تصريح الناطق الرسمي. ومرة أخــرى كان نهر النيــل الأزرق حاضــرا، حانيا على الأجســاد التي مزّقها الرصاص، وتلك التي أتته حية مكبلة بالأثقال. الهدف الرئيس لهجوم تتار القرن الواحد والعشــرين لم يكن فض الاعتصام، بل قتل الأمل في التغيير عبر ســفك دماء اكبر عدد من الشباب المنهمك بهمة وجدية وحيوية في بناء الغد الواعد في بلادنا. كانت المجــزرة انتقاما، وتمهيدا لانقلاب مضاد على الثورة المجيدة.

لقد أشرنا من قبل إلى أن أول التحديات التي تواجهها ثورة السودان هي أن انتصارها ظل جزئيا وغير مكتمل ما دام توقف عند الإطاحة برأس سلطة تحالف الاستبداد والفساد، أو غطائها السياسي، بينما جسد هذا التحالف باق ينخر في عظام الثورة وينســج خيوط غطاء سياســي بديل، لينقض ويحكم من جديد بقوة الدم المسفوح. وقلنا إن هذا الغطاء السياسي البديل لن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي شرس، يكتسب الديمومة بفعل عدد من العوامل، منها أن تحالف الفساد والاستبداد من الصعب أن يبتلع ضياع مــا راكمه من ثروات ضخمة خلال العقود الثلاثــة الماضية. وهي ثروات لم تُجن بكدح عرق الجبين أو بتدوير رأســمال متوارث، وإنما باســتغلال يد الســلطة في نهب موارد البلاد وأحلام مســتقبل شــبابها. وبعد الثورة، لــم تُمس هذه الثــروات، وظل يجري اســتخدامه­ا فــي التحضير الجدي للانقضاض.

وفي ظل هذه الحقيقة، وحقيقة أن الجرائم البشــعة التي ارتكبت خلال الثلاثين عاما الماضية ثم إبان حراك الثورة، ظلت بدون مســاءلة أو عقاب، بينمــا مرتكبوها ظلــوا قابعين في مواقع الســلطة، وفي ظــل وجود قوة مســلحة ضمن هياكل ســلطة ما بعد الثورة، تدين بالولاء لتحالف الفساد والاستبداد، وعقيدتها القتالية الانتقام من الشعب ومن ثورته. كان منطقيا أن نتوقــع إنقضاض هذا التحالف على الثورة. وهو ما يحدث الآن بالفعل، وابتدأ بمذبحة فض الاعتصام والتي لا توصيف لها ســوى أنها جريمة قتل عمــد مكتملة الأركان، لا يجب أن نســمح بإفلات من خططهــا أو نفذها من العقاب.

صحيح أن الســودان يمر اليــوم بمنعطف هو الأكثر خطورة والأشــد وعورة، إذ زُج بالحكمة والتعقل والحس الســليم وإعلاء شــأن الوطنية وتحقيق الأمــل وبناء المســتقبل، زُج بكل ذلك في ركن قصــي مظلم بينما الأرواح الشــريرة، الُمتجســدة، تصول وتجول في فضاء الوطن الواســع وتسبح في بحور دماء شــهدائه الطاهرة. وصحيح أن هذا الوضع يتطلب إعلاء صوت الحكمة مثلما يتطلب التقدم بمشــروع وطني يسع الجميع، من شارك في الثورة ومن لم يشارك، مادام لا يعادي الثورة ولا يحاربها. ولكن هذا المشروع لا يمكن أن يمر مرور الكرام فوق جثث شهداء الثورة، وخاصة شــهداء مذبحة الاعتصام. لذلك، القضية الأولى والرئيســة الآن أمام قوى الثورة هــي الضغط لأجل تحقيق نزيه ومحاكمة عادلة لكل من ســاهم في هذه الجريمة مهما كان موقعه. أما عبــارات الحزن والعزاء، فلا تدبيج لها، وكل نواح الآن عقيم، وفارغة هي همهمات الأســى الكســيح، فقط لا صوت يعلو فوق صوت العدالة والقصاص.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom