Al-Quds Al-Arabi

دق طبول الحرب لا يحفظ أمن الخليج

- د. سعيد الشهابي ٭ ■ ٭ كاتب بحريني

أمــن الخليج، هذا المصطلح الذي يســتعصي تحقيقه على الفرقــاء المتجادلين حولــه، كان وما يزال وســيبقى موضوعا للأبحاث والنقاشات الأكاديمية والسياسية على حد السواء. كما سيظل مادة للتفاوض والمساومة وتسجيل النقــاط بين الحين والآخر. وبرغم ما يكرره ساســة بلدانه بأن ذلك مســؤولية أهله، فقــد بقي محكومــا بالتوازنات الدولية وتدخلات الــدول الكبرى والغربية منها خصوصا. وبرغــم أن المنطق يفترض أن شــعوب بلدانــه هي الأكثر حرصا على حماية أمنه، إلا أن عــدم توافق حكومات دوله فتح البــاب دائما للتدخــات الأجنبية. ويمكــن القول إن هذا البحر الذي لا يتواصل مع بحــار العالم ومحيطاته إلا عبر مضيق لا يتجاوز عرضه عشــرين ميلا، من أكثر بحار العالم ازدحاما، ففيه تمخر ناقلات النفط العملاقة وســفن الصيد المحلية الكثيرة وأســاطيل القوى الغربية خصوصا الأمريكية والبريطاني­ة.

وعلــى مياهه قتــل الكثيرون في الحــروب التي دمرت الكثير من إمكانات دوله. وبرغم مــا يقال عن تعدد مصادر النفــط وطرق نقلــه والســعي المتواصل لبنــاء الأنابيب العملاقة التي توصل منابع النفط بموانئ عديدة في البحر الأحمــر والبحر الأبيض المتوســط، إلا أن الصراع من أجل الهيمنة على مضيق هرمز لم يتوقف أبدا.

في الوقت الحاضر تســيطر كل من إيران وسلطنة عمان على ضفتي هذا المعبر المهم، ولكــن دولا أخرى لديها أطماع في السيطرة أيضا. وتؤكد القراءات السياسية أن الإمارات من أكثر الدول تخطيطا للسيطرة على الضفة الجنوبية من ذلك المضيق، ولا تستبعد نشوب نزاع لتحقيق ذلك. وحتى الآن لــم تكن هناك حاجــة لغلق المضيق أمام الســفن التي تخرج من الخليج أو تدخل إليــه، ولكن بقي التهديد بغلقه من قبــل إيران )إذا منعت من اســتخدامه لعبور ســفنها( مصدر قلق للعالم الصناعي الــذي ما يزال يعتمد على نفط الخليج الذي ينقل أغلبه على متن السفن عبر مضيق هرمز.

لكل ما سبق يســعى الفرقاء لتفادي النزاع المسلح الذي قد يؤدي لغلق ذلك المضيق لأن انعكاســات ذلك ســتكون متعبة جدا للاقتصاد العالمي.

ويتصاعد القلق مع نشــوب النزاعات المســلحة بشكل خاص. فقد حدث ذلــك خلال الحرب العراقيــة ـ الإيرانية ( 1988-1980( بشــكل خــاص. ومنذ توقفهــا قبل أكثر من ثلاثين عامــا تقلص الحديث عن ذلك حتــى خلال الحربين اللتــن قام بهما التحالــف الانكلو ـ أمريكــي على العراق، نظرا لبعد المضيق عن ســاحات المعارك. ولكن منذ وصول دونالــد ترامب للرئاســة الأمريكية عــاد الحديث عن أمن الخليج وفرض نفســه على الدوائر السياسية والعسكرية والإعلاميـ­ـة. ولا بد من التأكيد على أن نزعة بعض الأطراف للحرب يعتبر السبب الأول لذلك. فالتهديدات التي أطلقتها إدارة ترامب وإرســال حاملة الطائرات «إبراهام لنكولن» وطائرات بي 52 وإعادة نشــر صواريخ باتريوت، ساهمت في تصعيد التوتر بشكل غير مسبوق في الذاكرة المعاصرة. فحتى عندما أســقطت الفرقاطة الأمريكية «فينسنت» التي انطلقت مــن البحرين طائرة إيربــاص الإيرانية في 1988 لم يكن هناك تهديد بغلق المضيــق. ولكن تصريحات جون بولتون، مستشــار الأمن القومي الأمريكي، الاســتفزا­زية التي تبعها إرســال القــوات المذكورة وضــع المنطقة على مرجل من النار أججت الأوضاع مجددا. ثم جاءت الحوادث الأخيرة التي اســتهدف فيها عدد من ناقــات النفط لتدفع باحتمالات الحرب إلــى الواجهة. وليــس معروفا بعد من الذي قام بتلك الهجمات.

فهل من مصلحــة إيران القيام بذلك في الوقت الذي كان قادتها قد قرروا تحاشــي النزاع المســلح الذي دمر بلادهم قبل ثلاثين عاما؟ المشــكلة أن التحالف الانكلو- أمريكي ما فتئ يبحث عن مبررات لإثبات الوجود عســكريا وممارسة الســيطرة العملية على المنطقة خصوصا مســارات النفط. وما تزال الذاكرة تختزن مــا فعله ذلك التحالف من تزييف الأسباب لشن حرب على العراق في العام 2003 بدعوى أنه يمتلك أســلحة دمار شــامل. وما أن انتهت الحرب بإسقاط نظام صدام حســن حتى اتضح عدم وجود أســلحة دمار شــامل لدى العراق. فهل اعتذر الغربيــون عن تلك الحرب المدمــرة؟ مياه الخليج شــهدت حالات خطيــرة من التوتر العســكري، ولعبت الألغام دورا في تفجيــر ناقلات النفط في عامــي ‪-1988. 1987‬في تلك الفتــرة صنعت الولايات الأمريكية لنفســها حضورا عســكريا مباشــرا من خلال ما ســمي «مصاحبة الســفن » الكويتية إلى خليــج عمان عبر مضيق هرمز.

كانت إيــران تعتبر ذلك الوجود اســتفزازا لها، ولكنها آنــذاك كانت منهكة جــدا بعــد ثمانية أعــوام من الحرب المتواصلة. وشــيئا فشــيئا اســتطاعت إعادة بناء قواتها المســلحة وإمكاناتها العســكرية. وبموازاة ذلك كان هناك اهتمام خاص بتســليح الدول الصديقــة للتحالف الانكلو ـ أمريكي وتمكينهــا من أداء دور شــرطي المنطقة. فحدثت الحرب على اليمن من قبل التحالف الســعودي ـ الإماراتي المدعوم مــن الولايات المتحــدة وبريطانيــ­ا، وهي الحرب التي ما تزال رحاهــا تدور بدون توقف منــذ أكثر من أربع ســنوات. وحيث أن التحالــف المذكور لم يــراع الضوابط الأخلاقية الدولية للحرب، فقد توسعت دائرتها وضحاياها المدنيون وقتل الأطفال والنساء وفجرت قاعات الاحتفالات والأسواق والمدارس والمستشفيا­ت.

وبفشــل التحالف في حســم الحرب تطــورت قدرات اليمنيين العســكرية واســتهدفو­ا بصواريخهم وطائراتهم المســيرة مواقــع عســكرية واقتصاديــ­ة في الســعودية والإمارات، الأمر الذي وسع رقعة الحرب وجعل مهمة وقفها صعبة جــدا. ويتضمن خطاب التحالف المذكــور تبريرا لما يقوم به باســتحضار مقولة «أمن الخليج» وأن اســتهداف اليمن إنمــا جاء لاعتبــارا­ت تتصل بذلك الأمــن. فما مدى واقعية توسيع مفهوم أمن الخليج إذن؟

التصعيد الأخير مع إيران جاء من أطراف ثلاثة تجمعها أجندة وأحدة: أولهــا: الإدارة الأمريكية برئاســة دونالد ترامب الذي تصدى للمســلمين قبل فوزه فــي الانتخابات ومنع مواطني ســبع دول إســامية من دخــول الأراضي الأمريكيــ­ة. ثانيها: التحالف الســعودي ـ الإماراتي الذي وضــع قادته أعينهم علــى قيادة العالم العربي وســخروا عائــدات امبراطوريت­هــم النفطيــة لتحقيق ذلــك الهدف، وجعلوا اســتهداف الإسلام السياسي في جوهر مشروعهم السياسي والعسكري. ثالثها: الكيان الإسرائيلي الذي يرى في إيران مصدر التهديد الأول لوجوده خصوصا مع رفضها الاعتراف بالكيان الإســرائي­لي أو التفاوض معه أو التخلي عن دعم القوى التي تقاومه.

أمن الخليــج هنا تتغير ملامحه وإبعــاده بتغير الجهة المشــاركة في اســتهداف إيــران. فأمريكا ورثــت المنطقة عن البريطانيي­ن الذيــن قرروا مؤخرا العودة إلى شــرقي الســويس بعد نصف قــرن من الانســحاب. أمــا الكيان الإســرائي­لي فينطلق في اهتمامه بمقولة «أمن الخليج» من رغبته في مد الجســور مع الســعودية والإمارات، ويعتبر البحرين التي دعم نظامها منذ أكثر من عشرين عاما، تابعا للتحالف المذكور، وجسرا يسير العبور للكيانات المذكورة.

التفجيرات الأخيــرة التي اســتهدفت المصالح النفطية لبعــض دول منظومة مجلــس التعاون الخليجــي، ومنها اســتخدام الطائــرات المســيرة لضــرب منشــآت نفطية سعودية، وصاروخ بالســتي لضرب مطار ابها السعودي، وأخيرا استهداف ناقلتي نفط نرويجية ويابانية، استهدفت أمن الخليج عمليا، وكشــفت مواقع الضعــف في المنظومة العســكرية التي تتهيأ للانقضاض على إيران. من جانبهم ينكر الإيرانيــ­ون أي صلة لهــم بالتفجيــر­ات، ويؤكدون مســؤوليته­م عن الحفاظ على أمن الخليــج الذي يملكون نصف شــواطئه، وليس مســتبعدا أن تكــون التفجيرات مفتعلة من قبل قوى تتمنى حدوث مواجهــة عســكرية بــن إيــران والولايات المتحدة الأمريكية.

هذه الجهات من شأنها افتعال بعض الحــوادث لتحدث إربــاكا عاما وتشوشــا وتعبئ التحالف الانكلــو- أمريكي لتكثيف الضغــوط على إيران ومن بينها العمل العســكري. أمريكا لا يهمها أمن الخليج إلا بقدر ما يؤثر على إمدادات النفط، وعندما تســعى للتقارب مع إيران فإنما تفعل ذلك بروح اســتعلائي­ة واســتكبار بلا حدود. هذا الســعي إنما جاء بعد أن انســحبت أمريكا من الاتفاق النووي، وفرضــت عقوبات اقتصادية صارمة على طهران، وســعت لاختــراق حدودها بكل الوســائل ومنها الإرهاب.

واعتقد ترامب أن ضغوطه ستدفع الجمهورية الإسلامية لرفــع الراية البيضــاء، ولما لم يحدث أي مــن ذلك طرحت موضوعة الحوار مع إبقاء كل الإجراءات مكانها. الإيرانيون رفضوا ذلك بشــكل قاطع علنا وســرا. وربما لم يكن رئيس وزراء اليابان، شــينزو أبي، يتوقع الرد الذي ســمعه من قائد الثورة علي خامنئي الذي كان واضحا وحاسما برفض العــرض الأمريكي بحوار فوقي ينطلق فــي أجواء الإكراه والتهديد بعد أن اتخذت واشــنطن كل الإجراءات القمعية ضد إيران وما تمثله، ومن ذلك نقل الســفارة الأمريكية إلى القدس، والإعلان عــن صفقة القرن لإلغــاء أي أمل بدولة فلســطينية، وتصنيف حركات المقاومة المدعومة من إيران علــى لوائح الإرهاب، ومن بينها حرس الثورة الإســامية وحزب الله وحماس، وربما الإخوان المسلمون لاحقا.

إن منطقة الخليــج تعيش مخاضات عديدة، ســاهمت السياسة الأمريكية في تعقيدها وجعلها أكثر إيلاما. وليس مســتبعدا أن تكون أمريكا وعملاؤها وراء أعمال التخريب التي شهدتها مياه الخليج مؤخرا، تمهيدا لعدوان آخر يكمل مسلســل العنف الذي شجعته أمريكا أو على الأقل لم تتخذ أي إجراء لوقفه. وأمن هذه المنطقة )خصوصا أهلها( لا يمثل أولوية للولايات المتحدة الأمريكية التي جعلت «إسرائيل» فوق كل شــيء. أمريكا أصبحت عرابا للقمع والاســتبد­اد والعدوان على الشــعوب الآمنة، ومرغت قيم الديمقراطي­ة وحقوق الإنســان في التــراب في مقابل أمــوال النفط من التحالف السعودي ـ الإماراتي الذي يواصل عدوانه على الشــعوب العربية، من البحرين إلى مصر وسوريا واليمن وليبيا والسودان. فماذا يعني الحوار بعد هذا كله؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom