Al-Quds Al-Arabi

المحك الثالث للجوء في التاريخ اللبناني

- وسام سعادة٭ ٭ كاتب لبناني

■ لم يبدأ التاريخ اللبناني مع مخيمات اللجوء لا مع الســوريين ولا مع الفلسطينيي­ن. كانت البداية مع الأرمن. في مطلع العشــريني­ات تكثــف كامب الأرمن غرب نهــر بيروت بحيث شــكلوا الأكثريــة المطلقة من ســكان العاصمة، في وقت ما كان محســوما بعد إعطاؤهم جنســية البلد المشــكل على قاعدة توسعة متصرفية جبل لبنان، بمزاوجتها بالساحل والبقاع، وباختيار بيروت، عاصمة ولايــة بيروت العثمانية الســابقة، عاصمة للكيــان الجديــد. أول اتفاق بين المســيحيي­ن والمســلمي­ن في هذا الكيان الجديد تمثل بنقل الأرمن من غرب نهر بيروت لشــرق نهر بيروت. لاحقا، اســتفاد المســيحيو­ن من رفع نسبتهم المئوية لمجموع اللبنانيين من خلال تجنيس اللاجئين الأرمن، وتعزيز مقولة أن البلد ملاذ للأقليات المضطهدة.

ومن بداية العشــريني­ات إلى يومنا ظلت مخيمات اللجــوء أرمنية ثم فلســطينية ثم ســورية، تعطي اللبنانيين أما عنصرا للوفاق فيما بينهم على حساب «الغريب»، وأما لتعزيز الصراع فيما بينهم، أو للتنقل بين شيء من هذا وشيء من ذاك.

تدفق اللاجئون الأرمن على لبنان، بســبب الإبادة والحرب الكبرى. الفلســطين­يون مــع النكبة، وكانت حرب 48 هي الوحيدة التي شــارك فيها لبنان كدولة. السوريون مع تصاعد القمع الدموي للثورة، وتدخل حزب الله في ســوريا، وتحديدا في المناطق المحاذية مع لبنان منهــا، التي انتقل أغلب ســكانها المهجرين بالنتيجــة إلى لبنــان. على اختلاف هــذه الحالات الثلاث، المعادلة الأساسية متواصلة: مخيمات اللجوء تمثل عند كل منعطف مشروع اختبار مزدوج للتركيبة اللبنانية، تظهر من ناحية ديناميات التكتيل اللبناني بإزاء اللجوء، وتفجر من ناحية ثانية تناقضات البلد الداخلية والتشبيكات الخارجية لأنسجته.

واليوم البلد أمام حسابات «متخيلة» حيال اللجوء الســوري بالتحديد: الأولى إنه يمكن تشكيل عنصر توحد لبناني مسيحي إســامي على أساس إشكالية اللاجئين الســوريين. الثاني إنه يمكن تشكيل عنصر تلاقي مسيحي شــيعي على أساس إشكالية اللاجئين السوريين اعتبارا إلى سنية معظمهم. الثالث إنه يمكن تشكيل عنصر استقطابي تكتيلي مسيحي على أساس إشكالية اللاجئين الســوريين. الرابع إنه يمكن إيجاد أرضية للتنافس المسيحي المسيحي «الرئاسوي» على أساس إشكالية اللاجئين السوريين.

إلى حد كبير الجدل حول العنصرية وعدمها يلعب دورا في طمس هذه الحسبات الأربع. لكن، والسؤال يســأل، ما الذي ســيكون الأقرب للعنصرية؟ تكتيل اللبنانيين ككل ضد الســوريين، أو إعادة تحســس هشاشــة التركيبة المجتمعية اللبنانيــ­ة انطلاقا من تفاوت أنماط معالجتها لمســألة اللاجئين السوريين؟ مــا يطغى على المشــهد في الوقت الحالــي، دع عنك العنتريات، هــو إدراك أن هذا الموضوع، وانســداد الآفاق العملية الشاملة أمامه، يظهر هشاشة التركيبة المجتمعية اللبنانية نفســها، بمثل ما يظهر هشاشــة التركيبة المجتمعية السورية. بعد كل شيء، هذا الكم من اللاجئين خرج أيضا من ســوريا، ليس فقط لأنه هجر منها، بل لأن مجتمعا فيها فرط، عوضا عن نظام «لم يفرط .»

تتداخل هكذا حســابات، وفــي موازاتها يحضر الجدل حول خطــاب العنصريــة والكراهية. بيد أن الكلام عن عدم قدرة لبنان وتركيبته على اســتيعاب هذا العدد من اللاجئين الســوريين لا يمكن أن يكون بحــد ذاته عنصريا. كذلك الــكلام عن ضرورة وضع حلــول عمليــة لعــودة تدريجيــة وآمنة لا يمكن أن يكون بحد ذاتــه عنصريا. والــكلام أن اللبنانيــ­ن هم بالفطرة أكثر عنصرية من ســواهم فهــو العنصرية المطلقة.

أما تعليل وجود هذا العدد بتفســيرات نفســانية وعرقية واهية ومبتذلة، من نوع أن السوريين اعتادوا عيشة المخيمات والمســاعد­ات، كما من نوع التشكيك والطعن في أســباب لجــوء أغلبهم إلــى لبنان، فهو عنصرية مقيتة. والأســوأ أن هذا الكلام يفقد القدرة على الفعل، مثلما أنه يفقد القدرة على توجيه الاتهام إلى المتسبب الرئيسي في تهجير هذا الكم من الناس من ســوريا: نظام بشار الأسد. الطرفة أن انصار هذا النظام فــي الداخل اللبناني الذيــن يتبرعون بنفي الأســباب الموضوعية للتهجير واللجوء والمسؤولين عنه، لا يعودون يدركون كيف يمكن معالجة المشكلة، طالما هم يكابرون على كل منظومة التسبب بها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom