Al-Quds Al-Arabi

ستيفان زفايغ... النورس المهاجر الذي انتحر احتجاجا على عالم يتهاوى

- ٭ كاتب من المغرب

■ لماذا لم يســتطيع ســتيفان زفايــغ )28 نوفمبر/ تشــرين الثانــي ‪22- 1881‬فبراير/شــباط 1942) إعادة بنــاء حياته مــن جديد في منفــاه الاختياري فــي إنكلترا أو البرازيل؟ وما الســر الــذي جعله غير قادر على احتمــال الإقامة خــارج بلده؟ هــــــذا ما حــاول كاتب ســيرته جورج بروشــنيك الإجابة عنه في كتابه «المنفى المســتحيل» الذي حاول فيه استنادا إلى مذكراته ورســائله توضيح الدوافع الكامنة وراء قراره الانتحار، في الوقت الذي كان لا يزال يتمتع فيه بشعبية مميزه واستثنائية.

عرفــت المكتبة القومية اليهودية في شــهر نوفمبر/ تشــرين الثاني لســنة 2017 لأول مــرة مجموعة من الرســائل لســتيفان زفايغ، كان قد كتبها في سنوات 1921 و1933 ميلادية إلى أحــد القراء الألمان في مدينة لينينغــرا­د، وكانــت قد نشــرت المكتبة نفســها قبل خمس ســنوات من الآن الكثير من الوثائــق النادرة على موقعها الإلكتروني بشــأنه وذلك بمناسبة مرور ســبعين ســنة على الانتحــار الأليم الذي هــز آنذاك الساحة الفكرية والثقافية الغربية. لقيت الوثائق التي عرضت إقبــالا كبيرا من طرف الــزوار الذين حرصوا على الاطلاع عليها. وبالخصوص الرسالة التي خطها في يومه الأخير قبيل انتحاره، رفقة زوجته في مدينة بتروليوس البرازيليـ­ـة ليلة 22 فبراير عام 1942، التي يشــكر فيها حكومة البرازيل وشعبها على استضافته، ويُعلم فيها أصدقاءه بقرار وضع حد لحياته. فقد كتب )قبل مفارقتي الحياة بمحض إرادتي الحرة، وفي كامل وعيي، أنــا مرغم على الوفاء بالتــزام أخير، أن أوجه خالص شكري الصادر من القلب إلى البرازيل هذا البلد الرائع الذي منحني ومنح أعمالي راحة تكشف عن بالغ الود وكرم الضيافة. لقد تعاظــم حبي للبلاد يوما بعد يوم، ولم أكن لأوثر بناء حيــاة جديدة إلا فيها. والآن بعد أن توارى عالمي الفنــي عني وهدم وطني الروحي أوروبا نفسه بنفسه. يحتاج المرء بعد أن ناهز الستين من العمر إلى طاقات اســتثنائي­ة كي يبدأ بداية جديدة من الصفر. وما لدي من طاقات اســتنزفته­ا مني أعوام التيه المديدة. لذلــك اعتقد انه من الأفضل إن أضع حدا لحياتي في هذا الوقت المناســب وأنــا مرفوع الرأس. أحــب كل أصدقائي راجيا أن تتســنى لهم رؤية الفجر بعد ليــل مظلم طويل وها أنذا أتقدمهم وقد فرغ صبري تماما، لذلك أرحل قبلهم(.

انتشــرت في اليوم الموالي لانتحاره رسالته كالنار وســط الهشــيم، إذ أذاعتها مختلف وســائل الإعلام السمعية والمكتوبة، وقد نظمت له الحكومة البرازيلية جنازة رســمية حضرها الجنــرال جيتوليو فارغاس رئيس الجمهورية البرازيلية آنذاك، ومجموعة كبيرة من المثقفين والأدباء. ولم يمر الحدث في صمت إذ خلّف الخبر صدمة كبيــرة، وبدا قرار الانتحــار غير مفهوم تماما، بل إنه أســفر عن موجة ردود فعل تضاربت بين التعاطف والاســتنك­ار. صديقه الحميم توماس مان لم يخــفِ غضبه مما اعتبره عملا جبانــا، وكتب إلى أحد أصدقائه قائلا )لم يكن ينبغي له أن يمنح هذه الفرصة للنازيين(.

يعد ســتيفان زفايغ واحدا من الكتاب الأكثر شهرة بين أبناء جيله، في حين كان فرويد والتحليل النفسي يبهران الناس، كان زفايغ يرســم ملامح أعماق النفس البشرية، ويكشف عن أدق خفاياها وأعنف انفعالاتها كالحــب والكراهية والخوف والشــغف. وقد ترجمت أعماله إلى ما يقرب مــــــن خمسين لغة.

واعتبر من الكتاب النمســاوي­ين الأكثر تأثيرا، حتى لقد أطلق عليه اســم دوستويفسكي النمساوي. أشهر أعماله «الســر الحارق» 1911() «التباس الأحاسيس» 1927() «الخــوف» 1920() «أمــوك» 1922() «أربــع وعشــرون ســاعة من حياة امــرأة» 1927() «ماري أنطوانيت» 1932() «الشفقة الخطيرة» 1938() «لاعب الشطرنج» (1942(. وأغلبها روايات مترجمة إلى عدة لغات.

من المعلــوم أن ســتيفان زفايــغ دون مذكرات من ســيرته الذاتيــة بعنــوان «عالم الأمــس» «مذكرات أوروبي» في لحظة حرجة من حياته الشــخصية. ففي مطلــع الأربعينيا­ت مــن القرن الماضــي كانت الحرب العالميــة الثانية في أوج احتدامها، فــي ما كان هو في البرازيل يخطط لوضع حــد لحياته. وبدا وكأن كتابه هذا كان البيان الختامي الأخير. ففيه إشارات قوية عن مدى الرعب الذي لازمه بعد وصول هتلر إلى السلطة، وهــو الرعب الذي تفاقم حين غادر النمســا مكرها. إن ستيفان زفايغ نمســاوي قح من أصول يهودية اشتهر ككاتب سير وراو بارع وكان من دعاة السلام ونموذجا للأوروبي المســالم، ولذلك كان جرحــه عميقا حينما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وعندما أصبحت بلاده ذات توجه نازي، غادر إثر الهجمات المتكررة على منزله من طرف القوميين الشــوفيني­ين الجرمان، لكنه أحس بالفراغ القاتل فــي المنفى، ولم يذق طعــم الراحة في أي مكان، بل شــعر بالإهانة. فحيثما حل وارتحل شعر بالوحدة والغربة القاســية، إنه ليس سوى ضيف في أحســن الأحوال. فأوروبا التي أحبها أقدمت في نظره على الانتحار حين انقســمت إلى معســكرين يحارب فيها الأخ أخاه. لقد شــهد على عصــر الأيديولوج­يات المتطاحنة الفاشــية في إيطاليا، والاشتراكي­ة القومية النازية في ألمانيا، والبلشــفي­ة في روســيا. وفوق كل ذلك التعصب القومي المقيت الذي ســماه الوباء الأكبر الذي ســمم الثقافة الأوروبية. لقد كان شاهدا مخذولا على انزلاق لا يصدق للإنسانية نحو البربرية المعادية للسلم والأمن. كتب أن يســمع عن معسكرات الاعتقال وعن سجون الاضطهاد وعن الغارات الجوية على مدن عاجزة كل العجز عن الدفاع عن نفســها. لقد اضطر أن يكتب مذكراته بمرارة في بلــد أجنبي، والحرب قائمة اعتمادا علــى ذاكرتــه، وفيها يحن إلــى عصر الأمن الذهبي عصر ما قبل الحرب العالمية الأولى. كان زفايغ يكره الحرب ويمقتها، إذ اعتبرها قرارا عبثيا، وقد نشر عقب الحرب العالمية الأولى مسرحيته عن مأساة إرميا في عيد الفصح، كتبها والســخط على الزمن يستحوذ عليه.

بين ســنوات 1924 و 1933 نعمت أوروبا بالســام النســبي، حيث تدارك الناس ما ســرقته منهم أوقات الحرب العصيبة، إلى أن أوقع الفوضى في العالم رجل واحد، إنه الفوهرر الذي أحدث في العالم من الشــر ما لــم يحدثه رجل آخر عبر العصــور. لقد طفا هتلر على السطح بسبب موجة الاستياء المتصاعدة التي سرعان ما رفعته إلى الأعلى. ولم يفوت زفايغ الفرصة فقد ألف سنة 1936 كتابه «كاســتيلو ضد كالفن» أو ضمير ضد العنف واختار العودة لحقبــة الإصلاح الديني لإدانة النازيــة. فقد وضــع الحاضر الخاضع للفاشــية على خشــبة مســرح التاريخ من خلال الرجوع إلى مرحلة سابقه لإدانة طغيان زمانه. فلم يجد أفضل من جدالات العصر الحديث حول الحرية الدينية التي انطلقت في أواسط العصر الحديث من سويسرا، بمناسبة محاكمة الطبيب الإسباني ميشال ســرفيه وإعدامه في جنيف بتاريخ 27 أكتوبر/تشــرين الأول سنة 1553 ميلادية. حيث تحول قسيس كاتدرائية سان بيار في جنيف إلى راديكالي قاس ومرعب، فلا رأي إلا رأيه، وكل الأصوات غدت صــدى لصوتــه، فكالفان كان يشــبه قطعة من الصخر، حيت أرســى دستور أرثذوكســي­ته الصارمة في كتابه «الأسس المسيحية». وتم حظر كتابات زفايغ في ألمانيا بعد شــهر من اســتيلاء هتلر على السلطة، ثــم حرقها إلى جانب كتابات أخرى على آلة التشــهير الخشــبية، كما هي عادة الألمان في العصر الوســيط. وذلك بمباركة وزير الدعاية غوبلز وســط ألعاب نارية احتفالية مصحوبة بأغان تؤجج المشاعر القومية. وتم توجيه تحذير شديد اللهجة للمكتبيين من مغبة عرض أو بيع رواياته. كما منعــت أيضا كتابات توماس مان، سيغموند فرويد، ألبرت إينشتاين، وأد موند هوسرل. مع ذلك فقد أثار عرض فيلم في قاعات ألمانيا جدلا كبيرا لأنه كان مستوحى من «الســر الحارق» أشهر روايات زفايغ، وقد تم منع العروض من قبل شرطة الجستابو. حين اســتقر زفايغ في لندن انســحب من المشــاركا­ت العامة، ولم ينشر أي مقالة سياسية في بريطانيا، ولم يتحدث فــي أي إذاعة. كانت حياته منعزلة في شــقة مغمورة لاستحواذ شــعور بأنه أجنبي عليه. فإنكلترا بالنسبة له ليست سوى مقام لم تربطه به أي عاطفة، ولذا تابع منها بأسى شــديد كتابه «سيرة انطوانيت» زوجة لويس السادس عشــر التي أعدمت إلى جانبه بالمقصلة، ثم جاءته فكرة كتابة عن ماري ســتيوارت المتهمة بقتــل زوجها، وبعدها اســتحوذ عليه الهوس لإحساسه بأن وطنه الأم النمســا ضاع منه إلى الأبد، ومما عمق مأساته أن أعماله التي أنجزها في بريطانيا بقيت مجهولة في ألمانيا والنمســا. كمــا أن القلق على مصير أوروبا بدأ يضغط على أعصابه. أصبح ستيفان زفايــغ مهاجرا ولاجئا بــا جواز ســفر. ومن منظور رؤيته اليائسة فقد عد رجلا غير محترم شخصا خارجا عن القانون حتى أنه شبه نفسه بالجسد الذي لا روح فيه. ولعل هذا اليأس هو الذي ســيولد فيه واحدا من أعظــم روائعه ونقصد رواية «لاعب الشــطرنج» التي نشرت بعد وفاته والتي ينذر فيها بسقوطه. لذلك هرب من الحياة بشكل نهائي في 22 فبراير/شباط 1942 . لم يتحمــل الرجل مدافع هتلر وهي تدك أوروبا دكا، حيث ابتلع رفقة زوجته قارورة من الحبوب القاتلة وسقط، كما يليق بالصقور أن تســقط ساعة الضيق ثم هجعته الأبدية. ألا يشبه زفايغ مهيار الذي تحدث عنه أدونيس في قصيدته «أغاني مهيار الدمشقي » حيث قال الشاعر: مهيار وجه خانه عاشقوه.

 ??  ?? ستيفان زفايغ
ستيفان زفايغ
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom