الاقتلاع وسياقاته في أفلام الفلسطيني كمال الجعفري
■ كثيــراً مــا يلتقــط الســينمائي فكرةً/ ثيمــةً ما، ويصورهــا فــي أكثــر مــن فيلــم بمقاربــات مختلفة، يقدمهــا فــي ســياقات متفاوتــة زمانــاً ومكانــاً، وبالتالــي موضوعــاً، إنما، فــي العمق، تبقــى الفكرة ذاتهــا، بتنويعاتهــا التــي يفرضهــا الســياق، أقــول يفرضهــا الســياق وليس الشــخصيات وحديثي عن أفــام الفلســطيني كمال الجعفــري، فأفلامه ممحية الشــخصيات، ولذلك غايــة متعلقة بالأســاس الذي تتناولــه هــذه المقالة في أفــام الجعفــري الوثائقية والتجريبية، وهي الاقتلاع.
يمكــن ملاحظــة التطــور والتنــوع في طــرح فكرة الاقتلاع لدى الجعفري، من فيلمــه القصير الأول «زُر العــراق» (2003( المزامن للاحتلال الأمريكي للعراق، وكان مقابــاتٍ ســريعة مع ماريــن بمكتب الخطوط الجوية العراقية في فيينا، إثر إغلاق المكتب وإفراغه مــن محتــواه. ما يقوله المــارون ومــا يعرفونه في ما يخص الســفارة، أوحــى بنوع من الإغلاق الحاســم المباغت القســري الغامــض، أي ما يمكن لــه التمهيد لما سنشــاهده في الأفلام اللاحقــة للجعفري ومنها «الاقتلاع».
بعــد هــذا الفيلــم، تتخذ ثيمــة الاقتلاع فــي أربعة أفلام سياقاً فلســطينياً تاماً، إذ يعود الجعفري إلى مدينتيــه، الرملــة ويافا، ليصــور الاقتــاع بمعنييه، اليومي والفــردي، والتاريخــي والجمعي، في أفلام وثائقية 2009 وأفضلها «اســتعادة» (2015( قبل أن ينوع في السياق مجدداً في فيلمه «الطريق طوٌيل من الأمفيؤكسس» الذي شارك في مهرجان برلين بداية هذا العام.
في «السطح» يمر الجعفري سريعــــاً بتفصـــيلات حول اقــــــتلاع الفلسطيني ابــــن الرملة ويافـــا من أماكنه، يشمل ذلك حــــــكاية شـــخصية وتصـــويراً لعائلته، إذ لا يريد كمال البــــــناء على ســطح بـــــيت أهــــــله لأنــــــه كان مكان بيـــــتٍ لآخرين اقتُلــــــعوا منـــــه ومن كل البلد ليصيــروا لاجئين، وبقي مكانهم فارغاً.
لحقــه فيلــم «مينــاء الذاكــرة» الأقرب ليشــكل متتالية مع «الســطح»، أســلوباً ومضمونــاً، إذ أن الفيلمــن جمعــا بشــكليهما الكائن بــن الروائي والوثائقي، وبمشاهد يقل فيها الصمت وتحكي المشــهديةُ الحكايةَ، بتكرار يزيد الَمحكــي كثافةً والحالة توتــراً )ما يذكر بالفلســطيني إيليا ســليمان والفنلندي آكــي كوريســماكي(، وجمــع الفيلمــان بمضمونهمــا الشــخصيات والأمكنــة والفكرة الرئيسية وهي اقتلاع أصحاب البيت مــن مكانهم وإحلال إســرائيليين محلهــم. وأتى بينهمــا «نوافذ» ليصور بســبع دقائق نوافــذ هــذه البيــوت، نوافــذ مغلقــة لبيــوت عديــدة ومهجــورة، اقتُلــع أهلُها منهــا، بمَشــاهد مثبتة على النوافــذ إذ ينتظــر الناظرُ حدثــاً لا يأتــي، كأن تنفتح بعودة أهلها إليها.
فــي فيلمه التجريبــي «اســتعادة»، يرتد الجعفري على كل ذلــك، على الاقتلاع الذي شــاهدناه صراحةً كمــا شــاهدنا آثــاره، في الأفــام الســابقة، باقتلاع مقلوب، مُســتدرَك، مارسه في منتَجة فيلمه الذي بُني على اقتصاص الَمشــاهد التي احتوت فلسطينيين في أفلام إســرائيلية، واستعادتهم، كشــخوص وأمكنة وتفاصيــل حياتية لتلــك الأمكنة، ولصقهــا ببعضها في شــريط واحد صار أخيــراً الفيلم، «مُقتلِعاً» الفلسطيني الحاضر كهامش وخلفية في رواية الإســرائيلي، ليكون متناً فــي فيلم بُنيَ عليــه، على وجوده الجمعــي، وهو هنــا وجود اســتُل من حالــة الُمقتَلَــع التــي كانها فــي الأفلام الإسرائيلية.
فــي فيلمــه الأخير، «الطريــق طويلٌ مــن الأمفيؤكســس» 17( دقيقــة(، يُكمــل الجعفــري تصويــر حــالات الاقتلاع في ســياق جديد، أو مستجد، ومتعلــق بموجات اللجــوء التي اضطر لها ســوريون وفلســطينيون وآخــرون خــال الســنوات الأخيرة، فكان الفيلــم تصويراً لحالات الانتظار التي يعيشــها هــؤلاء في أحــد مراكز اســتقبال طالبــي اللجوء في برلــن، وقد اقتُلعــوا من أمكنتهــم وبلدانهم. الهمهمة والضجيــج والجلبــة، إضافــة إلى مؤثــرات صوتية تُضــاف إليها مؤثــرات بصرية، ســادت المركز المعتم الذي تســأل فيه سيدة سورية مسنة شاباً فلسطينياً )نعرفهما مــن لهجتيهما( عــن الــذي يوزعونــه هنا، فيجيــب «أرقــام»، هــم يوزعــون أرقامــاً بعدمــا كانــت تنتظــر متوقعةً، أن يوزعــوا، حليبــاً وخبــزاً، أي مــا تحتاجــه لتأمــن وجودَها، لا نفيه.
الفيلــم مبنــي علــى تصويــر ســاعات عديــدة في المركــز، موثقاً حالة ما بعــد الاقتلاع لــدى هؤلاء وقــد صــاروا أرقامــاً، أي تم محــو هويتهــم، وكل وجودهــم إثــر اقتلاعهم، وهو حــال الفلســطينيين المقتلعين مــن أمكنتهم في أفلامه السابقة، إذ اختفوا وصار واحدهم «الغائب»، ثم لمّ الجعفري حضورهم الضئيــل الشــبَحي مــن زوايا الَمشاهد الإسرائيلية وقصقصها وأحضرها إلى «استعادة»، أو استعادها في سياقها الطبيعي - لنقُل- بدون احتلال.
فــي فيلمه الأخير، صار الُمقتلَعــون أرقاماً تطير في الهواء، تتلاشى ثم تتجمع وتتكاثر وتملأ الشاشة في أمســية برلين المعتمة والبــاردة واللامبالية، والغريبة عن هؤلاء.