Al-Quds Al-Arabi

شعرية الدهشة في ديوان «لا تلومي الوردة لا تأكلي العوسج» لكريم ناصر

- ٭ كاتبة عمانية

الطريق إلى وردة الشاعر: هكذا عنونَ الشاعر كريم ناصر مجموعتة الشعرية «لا تلومي الوردة لا تأكلي العوســج» فالوردة والعوســجة كلمتان ترمزان إلى دلالات عميقة، وتشــيران إلى رمزية شــعرية تجعله متفــرّداً بلغته عن باقــي أقرانه، كل ذلك ليدفع القارئ ويحضّه على الاستشراف ليجرف الثلوج قبــل أن يصــل إلى المعنــى الحقيقــي. إنّ ســيكولوجي­ة الشــاعر المأخوذة بالحــروب والدماء، بالمــوت والنفي، بالوحــدة المؤطــرة بانتظــار أرض جديدة، لــم تعفه من أن يقتحــم ملذات الحب وجماله مــن أن يزجره، يناديه، يحلم به، ويذكــر تفاصيل تلك اللحظة المتفجرة حســب أوكتافيو باث.

اللغــة = المفارقة والبحث عن الدهشة

الأســلوب = الابتــكار والخروج عن المألوف

الصورة الشــعرية = المجاز والاستعارا­ت

الخلق الجمالي = الرمزية المشفرة والوعي باللغة

والحقيقــة أنّ القصيــدة عنــد كــريم ناصــر فهــم جوهــري، فالصــورة الشــعرية في عرفــه تعتمد علــى قــوّة الخيــال الــذي يخلــق تجانســاً صوريــاً فــذّا. فليســت التراكيــب الشــعرية حصــراً تولــد العمــل الشــعري، بــل الأسلوب المبتكر هو الذي يخلق الشعر ويستجلب الدهشــة ومــا يليها من لــذاذة ومتعــة ورفعــة، بعــد كل هذا لن يكون هناك تحوّل في بنيــة اللغة، من دون مغامرة ليعمل على إنتاج الأشــكال، كما قال ذلك الشاعر في أحد حواراته، حيث إنّ حساسية الشاعر المرهفة بالأشياء مكنته من أن يكون مغامــراً، ليخــوض غمار تجربــة صعبة جعلتــه بدورها قادراً على ترجمة الصورة الشــعرية بواسطة إحساسه النافذ، الذي مــا كان له الّا أن يؤهله فــي عملية الغوص فــي الأعمــاق أو التنبؤ بما يحــدث ليخلق مــن ذلك قوّة جبارة مدهشــة. فالبحث في أدغال الروح، والاســتقا­ء من اللغــة، والتوغل في عالم المعرفة ذلك، إنما للكشــف عن أعماق الوجود الإنســاني المتفرد، انطلاقاً من منهج رصــن وحرص لامتنــاه وضعاه أمام مســؤولية كبيرة ليقــدم مــادة جوهرية من خــال بؤرة شــعرية مزلزلة، وإلّا فكيــف للحيات والطيور والتنانين والأزهار أن تنمو في عالــم جديد غريب من غير شــعرية يعيد فيها الهدم، ويشكله وفق ما يريد لتحقق المتعة والتأثير والتلقّي إنها شعرية الدهشة بسماتها الناصعة. ففي قصيــدة «أرثي الطبيعــة لأغنم أيائلــك» يخبرنا الشــاعر أن تلك الخميلة النضرة التي تعادل الطبيعة أو تكاد تتفوق عليهــا هي لحظة الانبهار والمتعة في الحياة التي تزدان بوجود هذه اللذه والتي تشــهد ولادة الفرح والغطــس بعيداً عن المعتاد من الحياة العادية فالشــاعر مأخوذ باصطياده لهذه الفراشة: ياليتني اصطدت فراشة، كعاشقٍ يرسم كوكباً على سجادة. مــا معنى لكل هذا إذا لم يعــرق العصفور ويجد مكانا ينفض فيه زغبه: مــا معنــى أن يعــرق عصفــورٌ ولا ينفــض زغبه؟ مــا معنــى أن ينط نمٌر ناقص النمو؟ أنا الذي نفض من جسمك الوبر، وأيضاً: تمنيــت لــو تتمغــط الشمس كفرس، تمنيت لو ينقض الباشق على الحيات لعل الطائر يقلد الكنغر. هذه الأمنيات هذه الاحلام تتربــص بالشــاعر فتلكــز ذاكرته لذلــك فإننا نراه يرغب في أن يتســلق جذع الشــجرة ليطليــه بالذهــب، فهــل عليهــا بعــد ذلــك أن تلــوم هــذا العطر والجمال لتأكلالعلق­م: لا تلومي الوردة، لا تأكلي العوسج فلا تحمل يدي ورداً ذابلاً لا تقطعي روحي. أمســى شــحرور كريم ناصر الحدث الأغر يوم أطلقة معلناً عــن مغامرته تــارة، وأخرى عن رغبتــه في أنفاق الصل حتــى يســمع الطائر موســيقى تعلــوه، وكعادة الشــاعر تحتل كائناتــه مكانتها الطبيعية الذي أفســح لهــا المجال لتحقق أحلامــه ورؤاه، فالرمزية الغارقة في مخلوقاتــه دلالة على تفرد عالمه الغامض الممتد إلى أبعد ما يتخيله العقل، وإلا فكيف لصلِ أن يمسك بالطائر. فلن أرضى حتى ينفق الصلِ، هنا يسمعُ الطائر الموسيقى كأفوافِ الضوء، تحطيم النمط: هكذا عمــدت أيروتكيته إلــى تحقيق ذاتها الشــعرية التي تغدق بأصناف الشــهقات وتكافــح على أن تتنوع لتحطيــم القــديم، فمياه الأيكة مشــفوعة بــوردة الأمل، بســمكة لم تلبث بالبحيــرة، بتفضيلة لهــذه الريح التي انتوت وفاضت بالمياه بروضة تنغلق على قلم: حلمت بحديقةٍ وأريكة، تلــك الروضــة، وذلــك النبع، وهــذا القلــم: قراطيس تُلول.. ها هي ذي المرأة تتلعُ- تلمعُ- تحت العريشة. نستخلص من هذا أنّ المعنى المبطن بالصورة الرمزية تجعلنا نقف مشــدوهين أمام شعرية تنهل من جماليات اللغة نفســها. فالقارئ الذي يســتهويه الشــعر ويكون مســتعداً للمغامــرة فــي قــرارة نصوص الشــاعر كريم ناصــر، عليــه أن يحلــل الكلمة مــراراً قبــل أن يصل إلى محتواها الأصلــي. فالكتاب والفراشــة والتمثال صور تجمع بين الجمال والدهشــة بين اللذة والمتعة، فأشعار كريم تحمل رؤية متفردة وشــكلاً شعرياً جديداً، أشعار تحاكي الوجود لتلغي كل الأزمنة بقوة التحدي المسكون بالجمــال، ومثلمــا يحاكي التمثــال والفراشــة يحاكي الغرنــوق الذي يغوي الحســناء بإيقاع توهجه، برقصه الذي يســدل فيه الســتائر في مــا بعــد. فمخلوق كريم الأسطوري يغوي ويكافح ليلتهم الظلام لو تضع الكتاب بين يدي التمثال مثلاً، فتقعد القرفصاء لتحلم بالحمام، لو تتدلى الفراشة من الفم، لترقش أزرار قميصها. هذا الانزيــاح اللغوي المفعم بالتجــدد والتجديد، هذا التفجــر في الوجــدان الذي يجعل القارئ يتشــظى أمام هذه المخيلة المتفجرة بالدهشة والاستفزاز­ية: أعرف فضائلك من حبات العرق.. آهٍ يا قلب السمكة إنــه يرمي بهامتــه كعاصفة، يرمم خيالــه في حديقة ليغنــم فاكهتها، إنــه يغرس مفردته كما يغرس شــجرة في واحة لا وجود للتكــرار فيها، فمروجه مجنحة تظهر بأشــكال متعددة، إننا أمام مدرسة شــعرية لا تشبه إلّا مدرســة كريم ناصر الــذي يحمل كائناتــه ويمضي بها إلى رمـــــزية فسفورية، لا تنفتـح إلا في رأس يتضـــــور جوعــاً لاكتشــاف لغة جديــدة في قــارة كريمــة بتنوع أزهارهــا وجمالها، هكذا فالشــعر خلق زمنه الخاص به وحده.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom