Al-Quds Al-Arabi

الشعراء والكاميرات الراقصات

- ٭ شاعر من فلسطين

... كثُــر هــم الشــعراء الذيــن يلهثــون وراء النجومية بشــكلها الخارجــي، وليس مضمونها الإبداعــي الحقيقيّ، وفي زمــان العولمة المفتوحة علــى الكــون بســهولةٍ عجيبة، تتســع المســاحة للســاعين خلف الضــوء، وما أدراك مــا الضوء، في أوج هــذه الفوضى التي تغــزو العقول تحت شمسها المصطنعة، نجد أن قوّة الشاعر وحنكتهُ فــي تقديم نصّــهِ للقــارئ العربي تتمحــور حول طريقة نشــرهِ المفترضــة، وعــدد المعجبين فقط، وليس قوّة المضمون فيــه، وهذه معضلة حقيقية لا ينتبــه لهــا الشــعراء فــي عصرنــا الحاضر إلا القليــل منهــم، وهــذا المأزق يــؤذي بشــكلٍ كبيرٍ ذائقة المتلقي الذي يأخــذ هذه الحالة على محمل الجــد، طبعاً، أنا لســت مــع الانزواء فــي الظلام التــام، وعــدم عصرنة الشــعر وتقديمــه للقارئ الذي يعيــش هذه العولمة في آن، أيضاً، لكنني مع الإنصات الروحــي للنص والانحيــا­ز للمضمون أولاً، وليــس من الضــروري أن نفكــر كيف نقدم النص وننشرهُ أو ماذا سيقول القارئ عن النص؟ إنمــا المهم هو إنتاج نص مبــدع قادر على أن يقدم نفسه بنفسهِ، وأن يصنع نرجسيتهُ اللطيفة التي تضع شــاعرها في مكانٍ آخر، فــي مكانٍ آمنٍ من أشباح الضوء الرديء والكاميرات الخفيات، كما قال عنهــا محمود درويش فــي قصيدتهِ بعنوان «إلى شاعرٍ شاب» من ديوانهِ الأخير «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»، وهي قصيدة أشبه بوصية للشاعر الشاب الذي يعاصر هذه المرحلة الصعبة والمعولمة في آن، يقول له: لا أخاف عليك من الواجبات أخاف عليك من الراقصات على قبر أولادهنّ أخاف عليك من الكاميرات الخفيات في سرر المطربات. خوف درويش على مســتقبل الشــاعر الشاب كان واضحــاً فــي القصيدة الوصيــة، فأكّد على أنّ هنــاك خطورة فــي الكاميــرا­ت الراقصات أو الخفيات، في ســرر المطربات أي الحفلات التي لا يشعّ فيها سوى ضوء الجسد الواضح والكاميرا الخفيــة خلســة، بعيــداً عــن الفكــرة وجوهرها، طبعــاً، ليســت المشــكلة فــي الكاميــرا والإعلام المرئــي المفتوح، لكــن كاميرا عن كاميــرا تختلف، والاهتمــا­م المفرط فــي حب الضــوء الظاهر منها يختلف عند الشــاعر نفســه، وليس جمهوره، أن يكون الشــاعر شــاعر الصــورة اللامعــة فقط، لا شــاعر الجوهر والمعنى الذي تســتحق قصيدته أن تضــيء ذاتهــا بذاتهــا، وأن تصنع شــاعرها الخاص الخارج من الســرداب المظلم إلى الضوء، بقوّتهــا المشــعة كالشــمس اللاهية المشــرقة من الغيم، هنا الأمر يختلف عمّــا يحدث اليوم، وعمّا نــراهُ يوميّاً في الأمســيات وصفحــات التواصل الاجتماعــ­ي، وهذا يضر بمســتقبل الشــعر الذي بات يســلك مســاراً آخــر، كمــا أنّهُ بات يشــكّل مفهومــاً آخر في وعي المجتمع، نســمع أنّ الناس يتكلمون عن شــاعرٍ كبيرٍ لأنّ الضوء عليه أوســع من الضوء على شــاعرٍ آخر قد يكــون أفضل منهُ نصّاً في الواقع، لأنّ الخفاء الذي يرتديه حاصرهُ برأيهــم، وهذه فكــرة خاطئة، قد يجعلــهُ الخفاء الذي يرتديه شاعراً متميزاً في هذا الزمن العاري مــن الحقيقة تماماً، ما اضطــرّ أدونيس في ندوة بيــروت/ الحمراء العــام الماضي، أن يشــير إلى هذه الظاهرة، حين سُــئل عن مســتقبل الشعراء الشباب، قال:

« الشــاعر الحقيقي هو الــذي لا يملك جمهوراً اليوم، لأنّ الجماهيريّة تحصر معنى الشاعر». هذا ما قالهُ أدونيس، والقصد منهُ أنّ الشــاعر الذي يملك جمهوراً يتحــول مطرباً في هذا الزمن تحديداً، وأنّ هناك خللا فــي نصهِ، إلا إذا حصل علــى جمهورٍ نخبــويٍّ كما كان جمهــور درويش مثــاً، كان جمهــوراً خاصــاً واســتثنائ­يّاً، لأنّــه شــاعر الاســتثنا­ء باختصار، وعدا عــن ذلك، أنّ جماهيريّة الشعر تغيّرت عن قبل، مع تغيّر مفهوم الشعر والواقع السياسي الراهن في عالمنا، ومن جهةٍ أهم، هــو الغزو الشــرس للتكنولوجي­ا على العقــل العربي، ما وضع نظرية الجمهور للشــعر العربي فــي منطقة أخرى ومفهــوم آخر، وهناك أيضــاً مقولــة للشــاعر الأمريكــي لوليــم هاورد غاس، يقول:

« إذا كنــت تكتب بشــكل رديء ســيصبح لك جمهور

وإذا كنــت تكتــب بشــكل جيــد ســيصبح لك قراء».

وكثــر هم الشــعراء الذين لا ينتبهــون إلى تلك المقــولات التي تحــثُّ على الانتباه مــن الجمهور، وعــدم الانصيــاع إلــى تصديــق وهــم العدديــة والضجيــج الذاهب إلى الصمــت بعد هنيهةٍ، وما أقلّ الشعراء الذين ينحازون إلى الهدوء النسبي فــي تقديم نصوصهم، وعدم الإيمــان التام بوهم النجومية/ الجماهيرية التي تُســقط الشــعر إلى قاع الحضيــض، لا يوجد جمهور فــي عالمنا يقرأ النص بحواســهِ الخمس، بل هناك جمهور فقط، يجد النص الشــعري صوتاً عالياً وضوءاً جميلاً فــي متنــاول الجميــع، فيخضــع لــه، والاختبار الحقيقــي هو عندمــا يقــرأ الناس الشــعر وفهم مضمونــه بهدوء الســلحفاة ســيصبحون قرّاء، ويصل الشــاعر إلــى هدفه المبتغــى، وينحاز إلى الســطر الثاني مــن مقولة غاس التي أســلفناها، أمّــا إذا أحدث النــاس الضجيــج الضوئي حول نصٍ رديءٍ فــي الحقيقة بــدون الإنصات الى ما يقول الشــاعر، بسرعةِ الأرنب، ســيبقى الشاعر في مكانهِ الأول بدون جدوى.

كما المعروف أيضاً، لو وضع الشــاعر ســلّماً بيديــه وصعد إلى الســماء ليلقــي قصيدتهُ على الكوكب ويضيء معهُ، مع عدم الشغل على النص والانحيــا­ز إلى الإبداع فيه، ســيظل النص رديئاً، لن يتغير شــيئاً، سيبقى نصهُ ســفليّاً مهما فعل، وهنــا مقولة تنطبق علــى الذي يحدث للشــعراء فــي هذا العصــر، يقول علي بن أبــي طالب، وهو يحج إلى بيت الله الحرام، قال: ما أكثر الضجيج وما أقل الحجيج، فما أكثر ضجيج الشــعراء وما أقــل الشــعر، وما أكثــر ضجيج الجمهــور حول القصيــدة التي لا شــعر فيها، فــي القاعات التي غالبــاً ما تمتلئ بالجمهــــ­ـور، ومواقــع التواصل الاجتماعي التــي تمتلئ بالعــــــ­ابرين والمعجبين والمشاركين، ومـــــن صور الشــعراء التي تجتاح الصفحات البيـــــض­اء، وما أقــل الذاهبين للعزلة الهادئة للإنصات إلى الداخـــــ­ل في أزقة النص، والإمســاك بالجمالي لاختبار الشاعرية على قدر المســتوى الملموس لذائقـــــ­ة المتعة فــــي الشعر، حتــى إن كان وجــه الشــاعر مخفيّاً كشــمعةٍ في الظلام.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom