Al-Quds Al-Arabi

بين شومسكي وجابوتنسكي... و«السور الحديدي»: البلاغة اللغوية لصالح الأجندة السياسية

- غبرئيلا بارزن )الغرابلي( هآرتس 2019/6/17

■ في تشــرين الثاني الماضي مرت 95 سنة على مقال «حول الحائط الحديــدي ـ نحن والعــرب» بقلم زئيف جابوتنسكي. كتب دمتري شومسكي في السابق، وبحق، أن هذا المقال يعدّ «شهادة الهوية الفكرية» لجابوتنسكي. حســب أقوال جابوتنســك­ي «الحائط الحديدي» يجسد الوعي بأنه نظراً إلى أن «ليــس بالإمكان أن نعرض على العرب أي تعويض عن أرض إســرائيل» فإن الصراع بين العرب والصهيونية أمر لا مناص منه. من هنا فإن انتهاء الصراع مرتبط بالحســم، الذي سيشكل انعطافة فكرية، يسلم فيها العرب بالسيادة اليهودية في أرض إسرائيل. جابوتنســك­ي كتب «شــعب حي يوافق على تنازلات في مســائل مصيرية... عندمــا يفقــد الأمل...وحينها تفقد المجموعات المتطرفة ســحرها، وينتقــل النفوذ إلى أيدي المجموعات المعتدلــة... في حينه ســيبدأون بالتفاوض معنا بإخلاص في مسائل فعلية، مثل إعطاء ضمانات ضد طردهم من البلاد، حول مســألة المســاواة في الحقوق أو بشأن الكيان القومي .»

ولكن شومسكي يخطئ عندما يقول إن المصدر الروسي للمقال خفي ، «الوجه المكبوت والمنفي لجابوتنسكي » الذي يقول عندما سينتهي عهد الحائط الحديدي ستقوم دولة فلسطينية مســتقلة على أرض إسرائيل. شومسكي يركز على تعبير «كيــان قومي» الذي يظهر فــي المقال بدلاً من كيان -الذي يوازي المفهوم الروسي «سامو بايتنوست» لجابوتنســ­كي ـ شومســكي يفرض مفهوم «استقلال». جهود شومسكي في تســخير جابوتنسكي لفكرة تقسيم البلاد غير جديدة، ولســنا بحاجة إليهــا. ولكن حقيقة أنه استنتج ذلك بواســطة دراسة فقهية تحتاج من أتباع جابوتنسكي الرد عليها.

ليس واضحاً من أين يســتقي شومســكي الصلاحية فــي القفز من الترجمة الحرفية لـ «كيان ذاتي » أو «ذاتية» إلى مفهوم «استقلال». إن البحث غير المنحاز في قاموس روسي ـ روسي سيظهر أن مفهوم «استقلال» لا يتساوق مع التعريفات في القواميس لكلمة «ســامو بايتنوست». بيتر كريكسونوف، المترجم المعروف للأدب الروسي إلى العبرية يؤكــد بأنه رغم التناظر فإن مفهوم «اســتقلال» ومفهوم «ذاتية» أمران متمايزان. ففي حين أن الأول موجه نحو الخارج فإن الثاني موجــه نحو الداخل، إلى مصدر خلق التميز. «الذاتية» توجد أيضــاً عندما لا يكون هناك «استقلال».

حســب شومســكي، منــذ بدايــة عمليــة أوســلو: «الإســرائي­ليون والفلســطي­نيون غيــر موجوديــن في عهد الحائط الحديدي». وحســب قولــه: «رجال الدوائر الفلســطين­ية المعتدلين جــاؤوا إلى الإســرائي­ليين وهم يحملــون اقتراحات لتنــازلات متبادلــة». الادعاء الذي يقول إن الحائط الحديدي في عملية أوســلو ســقط إنما هو ادعــاء مرفوض، لكن من أجل التمييــز بين «الذاتية» و«الاستقلال» ثمة تداعيات سياسية.

هــل هناك، في عهــد الحائط الحديدي بــدون ثقوب، مفاوضــات على تنــازلات متبادلة تضــم «ذاتية قومية» مثلما هي الترجمة الســليمة لجابوتنسكي، أو «استقلال قومي» مثلما يشــوه شومســكي الروســية؟ هــل يدور الحديث عن حكم ذاتي ثقافي ـ وطني، أو تقســيم البلاد وإقامة دولة فلسطينية مســتقلة، لها جيش يسيطر على الحدود وعلــى المجال الجــوي؟ إن تصميم شومســكي اللغوي يثير الاســتغرا­ب، لكن من ليس لــه مانع في أن يسخر جابوتنسكي لإقامة دولة فلســطينية، ليس لديه أيضاً صعوبة في تجنيد البلاغــة اللغوية لصالح أجندة سياسية.

شومسكي يستعرض الترجمة العبرية لـ «على الحائط الحديدي» ويشير إلى عدم موثوقية المترجم الذي نشرته عيري جابوتنسكي، والذي ذعر بسبب رؤية مفهوماً ظهر في الترجمة... رائحة تقسيم البلاد، ترجمها إلى «مساواة وطنية». أجل «مساواة» ليست الترجمة الصحيحة لمفهوم «ســامو بايتنوست». ولكن ادعاء شومسكي الذي قال إن هدفه من جعل فكرة تقسيم البلاد غامضة ـ هو ادعاء غير منطقي.

في التطــرق إلــى كريكســونو­ف يكتب شومســكي أنه رغــم حقيقة أنه «أصلــح الترجمــة القديمة بصورة مدهشــة»، فإنه اختار «ترجمة تحمــل معنيين إلى حد ما ـ كيــان قومي ذاتــي»، التلاعب واضح: شومســكي رمز إلى أن كريكســونو­ف أيضاً هو شــريك فــي المؤامرة من أجل إخفاء نوايا جابوتنســك­ي المكبوتة. وحســب أقوال كريكســونو­ف فإن اختيــار مفهوم «كيــان قومي» وضع على يد المحررة اللغوية. وبعد ذلك هذا هو الأمر الذي أثار غضبه. هو نفســه يفضل «الذاتية»، وبهذا تعلق بأغصان أشــجار عالية: لا شك لدى كريكســونو­ف في أن «سامو بايتنوست» كان المفهوم الروسي في وعي بياليك وباردي سبسكي وفخمان وشيلويسكي عندما استخدموا مفهوم «الذاتية». ومفهوم «الذاتية» عندهم تم تمييزه عن مفهوم «الاستقلال».

في حين أن تفسير شومسكي بشــأن «استقلال قومي عربي» فــي أرض إســرائيل غيــر موجود فــي كتابات جابوتنســك­ي، فإن مفهوم «الذاتية» رئيسي فيها ويظهر في ســياقات مختلفــة. في مقال نشــر في «اوديســكيا نوفوســتي» فــي كانون الثانــي 1908، الــذي خصص لاحتفالات العيد الـــ 25 لممثلة المســرح الأوكرانية ماريا زنغوفتسيا، فإن جابوتنســك­ي عبر عن تقديره لها لأنها تنازلت عن نجاحها المهني المشــهور في الثقافة الروسية لصالــح «الذاتية الشــعبية». تقديره للالتــزام بالذاتية الشعبية كان مبدئياً وتم التعبير عنه رغم التحفظات من اللاسامية الأوكرانية.

«الذاتيــة» هي «شــهادة هوية فكريــة». ومن ناحية جابوتنســك­ي يجب احترامها. «شــهادة هويته الفكرية» تستحق معاملة كهذه.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom