Al-Quds Al-Arabi

أوروبا نحو صناعة عسكرية مستقلة عن واشنطن

- % *

يعيش الغرب، ومنذ مجيء الرئيس الأمريكــي دونالــد ترامب إلــى البيت الأبيــض، توترا وتســاؤلات بســبب القرارات التي يتخذها، ولا تتعلــق فقط بالمواجهة مع دول مثل إيران وكوريا الشــمالية والصين وروسيا، بل تمتد إلى مكونات هذا الغرب، خاصة في التبادل التجاري والتعاون العسكري.

وتشكل التجارة والدفاع المشــترك ركيزتان أساسيتان للغرب منذ فتــرة زمنية طويلــة إلى وقتنــا الراهن، رغم الاختلافات بــن مكوناته بين الحين والآخــر. وعادت هذه الاختلافات إلــى الظهور بقوة خلال الســنتين الأخيرتين، بســبب سياســة الرئيس الأمريكي الجديــد القائمة على مصالح الولايات المتحدة أولا، ثــم الحلفاء ثانيا. ولعل من أبرز القرارات التــي أقلقت جزءا من هــذا الغرب، الاتحاد الأوروبي، قرار ترامب بوقف مسلســل التبــادل التجاري الحر، الذي اســتغرقت مفاوضاته الســرية قرابة عقدين. علاوة على هــذا، التهديد بالتقليل مــن الدفاع عن أوروبا، إذا لــم ترفــع دول الأخيرة من اســتثمارا­تها العســكرية ومساهماتها في الحلف الأطلسي.

وبدأت سياســة التهديــد تدفع الأوروبيــ­ن إلى اتخاذ قرارات حاســمة، أبرزها خريطة عمل تتضمن تعزيز النفوذ السياســي والعســكري الأوروبي فــي العالــم. وعمليا، ستشــرع ابتداء من هذه الســنة في تطبيق هذه الخريطة الاســترات­يجية التــي مــن عناصرها الرئيســية الشــق العسكري. في هذا الصدد، تحاول الولايات المتحدة ضمان بقاء الدول الأوروبية تحت حمايتها العســكرية المشروطة في منظمة شمال الحلف الأطلســي، معتمدة على أنها توفر أهم أسلحة الدفاع، لكن القادة الأوروبيين قرروا الاستقلال بصناعتهــم العســكرية وبــدء برنامج طموح للســنوات المقبلــة، ما أثار غضب البيت الأبيــض وانتقل إلى التهديد. ومنذ وصــول الرئيس دونالد ترامب إلــى البيت الأبيض، رفــع من الضغوطات علــى الدول الأوروبيــ­ة الأعضاء في الحلف الأطلســي مثل، المانيا وفرنسا وإســبانيا وإيطاليا لكي ترفع من مســاهماته­ا في الدفاع عن الغرب، وذلك عبر تخصيص على الأقل 1.5 من إنتاجها الخام للمســاهمة العســكرية. وتعتبر الولايات المتحدة الرابــح الأكبر، لأن رفع الدول الأوروبية من ميزانياتها العســكرية ســيترجم عبر شــراء الســاح الأمريكي، وخدمة المصانع العسكرية الأمريكية، ويكفي النظر إلى الأســطول الجــوي لعدد من الدول الأوروبية باستثناء فرنســا وبريطانيا، فهو مكون من مقاتلات أف 15 وأف 16، والآن هي بصدد إبرام صفقات لشــراء أف 35 المتطورة. لكن الدول الأوروبية ارتأت تبني اســتراتيج­ية مخالفة للضغط الأوروبــي، وهي تخصيص ميزانية ضخمة للبحث العلمي في المجال العسكري، وتمويل مشاريع عشرات الشركات الأوروبية وتشجيع التنسيق في ما بينها. وعليــه، خصصت لهذا الغرض ميزانية تقدر بـ13 مليار يورو خلال الخمس الســنوات المقبلة. وهي ميزانية لتمويل دراســات خاصة بالمقاتلات والحرب الســبرنيت­ية القائمة علــى الإنترنت، وتطوير صواريخ وســفن حربية وأســلحة أخرى. وتعد ميزانية ضخمة، فهي تكفي لشــراء ترسانة هائلة من الأســلحة، فما بالك بأنها مخصصة فقط للبحث العلمي العسكري.

ووضع الاتحاد الأوروبي عراقيل أمام مشــاركة شركات مثــل الأمريكية والكندية فــي هذا المشــروع، وذلك بهدف إقامة صناعة عسكرية أوروبية مســتقلة. وتهدد واشنطن الأوروبيين بعقوبات إذا لم يســمحوا للشركات الأمريكية بالمشــارك­ة في الأبحاث العسكرية بنســبة مقبولة، تسمح لها بالمشاركة في اتخاذ القرارات. وكانت الولايات المتحدة تســاهم في معظم الصناعة العســكرية، بــل حتى المدنية الأوروبية، سواء على مســتوى دولة أوروبية أو المشاريع المشتركة، وهذه المساهمة تســمح لها بممارسة حق الفيتو على المبيعات مســتقبلا. وتجــد الدول الأوروبية نفســها ســجينة الفيتو الأمريكي، ولهذا ترغــب في الحيلولة دون مشاركة الأمريكيين حتى يتســنى لها توقيع صفقات تسلح مــع دول ثالثة بدون رقابة أمريكية. وهذا يشــمل الصناعة المدنية كذلك، فقد أجبرت واشنطن شركة ايرباص للطيران على إلغاء الصفقات مع إيران، لأن هذه الشــركة الأوروبية تعتمد في بعض المكونات على التكنولوجي­ا الأمريكية.

ويقــول خبراء الاتحــاد الأوروبي في مجــال الدفاع إن الصفقــات مــع دول أخرى تضمــن المال لمزيد مــن البحث بشــأن تطوير الأســلحة، ويؤكــدون أن جــزءا كبيرا من تطوير الأســلحة الأمريكية قائم علــى الأرباح التي تخلفها الصفقــات مع دول ثالثة. وقد اســتفادت فرنســا مثلا من صفقات الأسلحة لتطوير صناعتها. واقتنع الأوروبيون في آخر المطاف بالنموذج الفرنسي الذي لا يعتمد في الصناعة العسكرية على المســاعدة الأمريكية، وهو ما يجعل باريس متحررة من القيود الأمريكية خلال توقيع صفقات مع الكثير من الدول، باســتثناء حادث بيع سفن ميسترال إلى روسيا منذ أربع ســنوات. ويمتلــك الأوروبيــ­ون حظوظا كبيرة لتطوير صناعة عســكرية، وإذا جرى اســتثناء بريطانيا التــي عرقلــت تاريخيا بنــاء صناعة عســكرية أوروبية، فالدول الأوروبية تصنع مقاتــات من الطراز الرفيع وهي، رافال وميراج الفرنسيتان وغريبين السويدية ويويوفايتر المشتركة بين عدد من الدول. وإذا تحالفت في ما بينها، فهي قادرة على صناعة طائرات من طراز سوخوي 57 الروسية وأف 35 الأمريكيــ­ة اللتين تعتبران أحدث المقاتلات في عالم ســاح الجو. كما من شــأن التعاون بينها صناعة حاملات طائرات مشتركة.

وإذا نجحت في الصناعة العســكرية، وهي الدول التي تتوفــر على كل شــروط النجاح المالية الخبــرة والعلمية، لن تخســر قوتها في المســرح الدولي، بل ستصبح ندا لكل مــن الولايات المتحدة والصين وروســيا. ويبقى أبرز عامل للنجاح، هو وعي الطبقة السياســية والعسكرية الجديدة في أوروبا بضرورة عدم خســارة رهان التطور العسكري، لأنه صمام الدفــاع كما هو ضمانة الحضور الدولي في عالم متقلب بسرعة. كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

سياسة التهديد الأمريكي دفعت الأوروبيين إلى اتخاذ قرارات بتعزيز النفوذ السياسي والعسكري الأوروبي في العالم

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom