Al-Quds Al-Arabi

معركة إدلب... بين أولويات المتفاوضين و دوي المدافع

- محللة سياسية يونانية مختصة بشؤون الشرق الأوسط

الســماء فــي إدلــب الآن لا يعكــر صفوها سوى آلاف القذائف والبراميل التــي أتت من حيث لم تأت، فعلى الرغم من مرور ثماني ســنوات على الثورة السورية العظيمة، إلا ان المجتمــع الدولي لايزال مُصراً على قلة الأدلة التي تحدد مرتكب هذه الجرائم، فأقمارهم الصناعية التي استطاعت رصد الثقب الأســود في الفضاء الســحيق، خانتها القدرة على كشــف بصمات القتلة على أشلاء الضحايا في إدلب ومحيطها، ولولا ذلك الغموض لما سكتت تلك الأمم المريضة بفوبيا الحجاب وحماية المرأة المسلمة من مجتمعها، ضمن هذا المشــهد المقــرف دوليــاً والمبكي إنســانياً، يصبح ثمن تلك الأرواح الطاهرة في الشــمال السوري «لا شيء» أمام معادلة المصالح للدول العظمى.

خريــف العــام الماضــي أعلــن الرئيســن التركي رجب طيــب أردوغــان والروســي فلاديميــر بوتــن عــن توقيع اتفــاق سوتشــي، الــذي ينص علــى وقف الاشــتباك في آخــر مناطق خفض التصعيد المتمثل فــي إدلب ومحيطها، الاتفــاق تكــون من عدة بنــود، أهمها نشــر نقــاط مراقبة تركيــة في مناطــق الثوار، ونقــاط مراقبة روســية مقابلة لهــا، مع تشــكيل منطقة منزوعة الســاح تمتــد بعمق 20 كــم على طــول خط الاشــتباك، يتــم تفريغها من الســاح الثقيل للفصائل السورية المعارضة، بالمقابل تمنع موسكو أي قصــف أو تقــدم عســكري من قبــل قوات الأســد، أو الميليشــي­ات التابعــة للنظــام باتجــاه هذه المنطقــة، وعلى الرغم من اســتمرار القصف، ولكن بدرجة أقل حدة، إلا أنه أعطى نوعا من الهدوء النســبي في إدلب ومحيطها، شجّع الآلاف من السوريين الموجودين في تركيا للعودة لقراهم، فيما استمرت الضغوطات الروســية على الإدارة التركية، لإيجــاد حــل نهائي مــن وجهة نظرهــم، يكــون مبنيا على أحقية الحكومة الســورية في دمشق باستعادة سيطرتها علــى جميــع الجغرافيــ­ا الســورية، ومــن ضمنهــا إدلب، واســتمر التهرب التركي من هــذه الضغوطات، مرة تحت عنوان انشغالها بالانتخابا­ت البلدية، ومرة أخرى بأولوية الشرق السوري. من دون أي مقدمات وفي اليوم الأول من شهر رمضان المنصرم، أعلن جيش الأسد مدعوماً بالجيش الروســي براً وجواً البدء بعملية عســكرية تهدف بشــكل صريح لإنهــاء آخر وجود للمعارضة الســورية المســلحة في الشــمال، وبالتالي تأكيد موت اتفاق سوتشي بشكل عملي والدخــول في مرحلــة جديدة من القتــل والإجرام. لتقييم مســتوى هذه العملية العسكرية ومداها يجب علينا كمراقبــن قراءة المشــهد فــي كل من أنقرة وموســكو من جهة، ثم قراءة تطورات الميدان من جهة أخرى.

من جانب آخر، مع تراجــع أرقام حزب العدالة والتنمية، الــذي ظهر جليــاً من خلال نتائــج الانتخابــ­ات البلدية قبل شهرين، فإن أنقرة أصبحت في موقف لا تحسد عليه دولياً وداخلياً، فواشــنطن أدخلت الإدارة التركية في مفاوضات ذات نفــس طويــل، بما يخص مســتقبل الشــرق الســوري ووجــود الميليشــي­ات الكردية فيه، في مــا يعاني الاقتصاد التركي بشكل واضح من مشــاكل مع تراجع الليرة التركية وتذبذبها المستمر، ومع استمرار التهديدات الأمريكية في ما يخص صفقة أس 400 الروســي وصفقة أف 35 الأمريكية، هــذه الأجــواء جعلت مــن موقــف أردوغــان وحكومته في تفاوضها على ملف أدلب مع الجانب الروســي أكثر ضعفاً مــن أي وقــت مضــى، فتركيا التــي نجحت في كســب ثقة طيف واســع من المعارضة السورية المســلحة والسياسية، واستطاعت استخدامهم لدفع الخطر الكردي عن جزء كبير من الحدود الســورية التركية، تقــف اليوم موقف المتخوف مــن نتائــج خســارتهم، فعلــى طاولــة المباحثــا­ت التركية الروســية اليوم تضع تركيا نقاطاً مهمة كأولوية يجب على موســكو أخذها بعين الاعتبار، بدايةً بملف منطقة تل رفعت ومحيطهــا في ريف حلب الشــمالي، بالإضافــة إلى وجود موســكو في محيط مدينة منبج أيضاً، كما ترى أنقرة أن أي اجتياح شــامل لإدلب هو بداية لموجة لجــوء قد تزيد الطين بلة، في ما يخص الشــارع التركي المنزعــج من هذا الوجود أصلاً، كما خســارة أنقرة لورقة إدلب ستكون بشكل عملي خروجهــم من مفاوضات الحــل النهائي للملف الســوري، وتجعل من ثقل كلمتهم في ما يخص شــرق الفرات من دون تأثيــر فعلــي، في المقابل لا تريــد الإدارة التركية أن تخســر صداقتها الاستراتيج­ية مع موسكو أيضاً. هذا التعقيد دفع الإدارة التركية بشــكل مبدئي لأخذ اســتراتيج­ية تفاوضية وعسكرية مشتركة، مبنية على أن لا تتدخل القوات التركية ونقاطهــا المنتشــرة علــى طول خــط النار في إدلــب وريف حمــاة بالمعارك الجارية هناك، كمــا تبقي أنقرة ضغوطاتها المتواصلــ­ة على حلفائها في المعارضة الســورية المســلحة، بعدم تجــاوز الخطــوط الحمر الروســية أو الدوليــة، التي تتضمــن القرى المســيحية في ريــف حماة الشــمالي كبلدة الصقيلبيــ­ة وبلــدة محردة، كمــا تمنعهم مــن التوغل ضمن ريــف اللاذقيــة الشــرقي، في المقابــل فتحت أنقــرة المجال لفصائل المعارضة باســتخدام ثقلهم العسكري الكامل، مع تقــديم دعم مدروس لأنواع معينة من الســاح النوعي الذي يجعل ثمن هذه العملية مرتفعا جداً على الأســد وموســكو، ومن جهة أخرى أبقــت الإدارة التركية خطوط تواصلها مع الإدارة الروسية على مبدأ لعل وعسى.

وفــي مــا يخــص روســيا، تــرى موســكو هــذه العملية مــن منظوريــن، الأول ذاتــي والثانــي دولي، فدوليــاً تعلم موســكو أن ما يجري في الشــرق الأوســط عموماً من توتر للأجواء بين طهران وواشــنطن مع إمكانية انزلاق الطرفين لحــرب مفتوحــة، أو معركــة محــدودة المحصلــة ســتكون طاولــة التفاوض، والوجود الإيراني في ســوريا ســيكون محــط تفاوض وتقييــم، فالحليف الأهم لواشــنطن المتمثل بتــل أبيب لايــزال مُصــراً على خــروج آخر جنــدي إيراني من الداخل الســوري بــأي ثمن، ضمن هــذه المعطيات ترى الإدارة الروســية فــي الوقت الحالي هو الأمثــل لإنهاء آخر وجــود عســكري للمعارضــة الســورية، في ظل مــا ذكرته سابقاً من ضعف في موقف أنقرة أيضاً، أما المنظور الذاتي لهــذه المعركة فإن موســكو تريد أن تمرر مســارها في الحل السياســي فــي ســوريا عبر دســتور جديــد ثــم انتخابات رئاســية، يكون الأسد أحد أطرافها، وســواء خرجت إيران من ســوريا عبر الضغوطات الأمريكية، أم بقي المشــهد كما هو فبإنهاء ملف إدلب ســتكون موســكو قادرة على فرض كلمتها على طهران للانسحاب، إما التدريجي أو المباشر من الجغرافيا السورية، فلا حاجة عسكرية تدعو ذلك الوجود، وبهذا الشــكل تكون موســكو قد تخطت آخر العقبات أمام فتح الباب لمشــاريع إعــادة الإعمار الذي تنتظره الشــركات الروسية على أحر من الجمر.

بنــاءً على ما ســبق يمكــن القــول إن تركيــا، حتى هذه اللحظــة، لاتــزال مصرة على إبقــاء ورقة إدلــب في يدها، كــم لاتــزال موســكو مصرة علــى إنهــاء ملف إدلــب بأي ثمن، حتى لــو اضطرت للاتجاه نحو معركــة طويلة مبنية علــى اســتراتيج­ية القضــم البطــيء المكلف. ثانــي أقوى جيــش فــي العالــم مدعــوم بمليشــيات لبنانية متمرســة على حــرب الشــوارع، وبقايا جيش الأســد ممــن دربتهم موســكو مؤخراً ودعمتهــم بدبابات روســية متطورة مثل أل تــي 72 المعدّلــة وأل تي 90، في المقابــل فصائل متفرقة ومختلفــة الأيديولوج­يــات وذات دعــم عســكري محدود ومعــدات عســكرية قديمة، بلغــة الأرقام فــإن المعركة في إدلب لــن تكون معقــدة، إلا أن هــذه المعادلــة ناقصة، فما أنتجتــه معركة طالبان أمام أقــوى حلف على وجه الأرض خــال الـ18 عاما الماضية، تؤكــد أن صاحب الأرض أقوى مهما كانت الفوارق في القوة العســكرية واسعة، فتوحيد الفصائل كخطوة أولى ثم تفعيل كامل الموارد البشرية، مع استغلال الحاجة التركية لورقة إدلب قد يكون كفيلا بكسر الغرور الروســي على أسوار آخر قلاع الثورة السورية في إدلب غراد.

ما أنتجته معركة طالبان أمام أقوى حلف تؤكد أن صاحب الأرض أقوى مهما كانت الفوارق في القوة العسكرية واسعة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom