Al-Quds Al-Arabi

عن الشماتة في أحمد أويحيى!

- ■ ٭ كاتب صحافي جزائري

اختلط الجــد والهزل في اقتراح الجزائريين تصنيف يــوم 12 حزيران )يونيــو( عيداً وطنيا، لأنه اليوم الذي أُدخل فيه رئيس الوزراء السابق، أحمد أويحيى، ســجن الحرّاش الشهير )يسميه ســكان العاصمة والقريبون الـ4 قطارات ـ هكتارات ـ بسبب مساحته الشاسعة وصيته السيء(.

الأربعاء الماضي، وما أن انتشــر خبــر نقل أويحيى للســجن، حتى دخل المزاج العام والشــعور الوطنــي حالة هيجان إيجابي. هلــل الجزائريون في الداخل والخارج. زغردت النساء والفتيات ملء حناجرهن. رقص الشبان في الشوارع. صلى الشيوخ والعجائز شــكرا لله. رفع الآلاف كفوفهم إلى السماء أن «يمهــل ولا يهمل». احتفل المســاجين. وبكى رجال بعــد أن غمرهم اليأس والخوف من أن لا يروا هذا اليوم في حياتهم.

كيــف ينجح رجل في هــذا المقام والنفــوذ والحنكة أن يفعل بنفســه ما لا يفعل به عدوه؟ حاول وزير ســابق محسوب على المثقفين أن يقنعني مرة بأن أويحيى داهية ويعمل أكثر مما يتحمل جســم إنسان وعقله: «كلّفه بهدم هذه العمارة في أســبوع فيهدمها في يوم». قد يكون هــذا الكلام صحيحا، لكن هذا الاستثناء فتَكَ بالجزائريي­ن ولم يفدهم في شيء.

فــي ربيع 1994، وقد كنت صحافيا في الجزائر، دعتنا الرئاســة إلى مؤتمر صحافي في فيلا «جنان الميثاق» في حــي الأبيار. كان الموضوع تقييم جولات من الحوار )الفاشــل( بين الرئاسة بقيادة الجنرال اليمين زروال، وقادة جبهة الإنقاذ المسجونين )في فيلا رئاسية بأعالي العاصمة لهذا الغرض(. كان هناك متحدث واحد، اســمه أحمد أويحيى، بصفته مدير مكتب الرئيس زروال. كان ذلك أول ظهــور له مع الصحافيــن والجمهور. وجدنا رجلا يدخن بشــراهة ويتكلم بشــراهة أكبر. طــرح عليه الصحافيون عشــرات الأســئلة، الجادة والتافهــة، فلم ينزعج ولم يضجر. وعلى غير العادة، لم يقل لهم أحد «هذا آخر ســؤال » أو «نأخذ ســؤالين وانتهى ». تعبنا ولم يتعب. مللنا ولم يتسرب إليه الملل. كان يجلس بجانبي الزميل علــي بومولة، فاتكأ نحوي وهمس في أذني بثقته المعهودة في النفس: تذكر هذا الرجل، ســيكون له شــأن عظيم في هذا البلد المنكوب!

في الأســبوع الأخير من كانون الثاني )ديسمبر( 1995 كنت في لندن عندما اتصل بي أحدهم «مبشِّرا» بتعيين أويحيى رئيسا للحكومة، ومهنئا بأنه أصغر رئيس حكومة عمــرا في تاريخ الجزائــر والعرب )42 عامــا(. قفز إلى ذهني لحظتها صديقي بومولة، وقلت: الله لا يبشرك بالخير! هذا معناه أنه سيعيش معنا الـ30 سنة المقبلة نشاهده ونستمع له يوميا في نشرات الأخبار.

وهكذا كان. 25 عامــا لم يغب عن حياة الجزائريين يومــا واحداً. ربع قرن من الحضور القميء «تطور» خلالها هذا الشــخص بثبات حتى انتهى به الأمر منبوذا يركــض مئات الجزائريين خلف عربة الســجون التي كانت تنقله إلى الســجن لرجمها بالحجارة وعلب الزبادي في صور سيخلّدها التاريخ. راكَمَ الإخفاقات وجلب الكره لشــخصه بنجاح منقطع النظير. خاض في التضليل السياســي وفي التدليس )في 1996 وقف أمام البرلمــان وأطلق عبارة «بقايا الإرهــاب » بينما كانــت البلاد تعيش حربــا أهلية تودي بالعشــرات يوميا( والتحايل والنفاق وفي الاســتفزا­ز واحتقار الناس. دمّر الجزائريين وأفقرهم. نجح في جعلهم يفقدون الإيمان ببلادهم. أبدع في التقلب فأصبح اســتئصالي­ا عندما كان الاســتئصا­ل )في التســعيني­ات( موضة. ثم تصالحيا عندما أصبح كلام المصالحــة هــو الطاغي. كان رأســماليا عندما تطلب الأمــر ذلك، فخرَّب مؤسســات القطاع العام وقضى عليها بسرعة مذهلة. وأصبح اشتراكيا عندما تطلب الأمر حديثــا عن أهمية القطاع العام والحفاظ عليه. دافع عن سياســة قتــل الجزائريين لمجرد الشــبهة، وعن قتل الإســاميي­ن بلا رحمــة، ثم دافع عــن المصالحة المزعومة التي احتوت الإســاميي­ن عندما طلــب الجنرالات من بوتفليقة تسويقها.

فرحة الجزائريين باعتقال أويحيى لا يكفيها التفســير السياسي، ولا يكفي تصنيفها ضمن انتصارات الحراك الشــعبي. يجب البحث لها عن مســوغات نفســية ومعنوية. فعلاقة هــذا الرجــل بالجزائريي­ن الذين يدّعــي أنه منهم ويتكلــم لغتهم )لكنه لم يمــشِ معهم على قدميه في شــوارع العاصمة منذ 40 ســنة(، أكثر من ســيئة ويغلب عليها الحقد. تغطرس الرجــل وظل ينظر إلى شــعبه، وخصوصا في الســنوات الأخيرة، نظرة «الكولون» (المستوطنون الفرنســيو­ن( في نظرتهــم للأهالي. وظل يصرُّ على إضافــة بهاراته الخاصة لإخفاقه الإداري والسياســي، حتى ترك قاموسا من العبارات المستفزة، مثل: جوَّع كلبك يتبعــك، المعلمون والأطباء المضربون عبارة عن مافيات، ســوريا بدأت بالورود وانظروا كيف انتهت، الجزائريون غير ملزمين بأكل الياغورت، التظاهر ممنوع لأننا شــعب لا يعرف كيف يعبر عن مطالبه كبقية الشــعوب، الحكومة نجحت في السيطرة على الشارع.. إلخ.

كل هذا قــاد الجزائريين إلى الإجماع على كرهــه والاحتفال بيوم اعتقاله، بدون أن يســمعوا مرة واحــدة عبارات من نوع «اللهم لا شــماتة»، أو «المتهم بريء حتى تثبت إدانته» وغير ذلك.

إلى جانب ما راكم أويحيى من تهــم وجنايات في حق الجزائر واقتصادها وشــعبها، في رقبته اليوم جرائم سياسية وأخلاقية لا تقل خطورة، منها على سبيل المثال لا الحصر: مجتمع مدمر نفسيا فاقد الإيمان بنفسه. شباب يكرهون بلادهم. عائلات فقدت شبانا ركبوا قوارب الهجرة فالتهمهم الحوت. مسيّرو شــركات عمومية زجّ بالآلاف منهم في الســجون بدعوى محاربة الفساد، منهم من مات كمداً ومن انتحر ومن جنَّ. آلاف العمال سُرِّحوا أو أحيلوا على التقاعد الإجباري. شركات عمومية كبرى اختفت من الوجود. ظهور مافيات من اللصوص وناهبي المال العام، تحتاج الجزائر إلى معجزة للتخلص من شرّهم.

أيًّا كانــت نهاية التحقيقات مع أويحيى ومحاكمتــه، هناك محكمة التاريخ ولعنته اللتان لا مفر له منهما ومن العار.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom