Al-Quds Al-Arabi

برلين... عن تجربة حياة وعمل مغايرة

- ٭ كاتب من مصر

■ يقترب عامي الأكاديمي في كلية الدراســات العليا البرلينية من أيامــه الأخيرة، ومعه تصــل إلى نهايتها تجربة الحياة والعمل لمدة عشــرة شهور في مكان واحد مع أدباء وشــعراء وموســيقيي­ن ورســامين وأساتذة جامعيــن متخصصين فــي العلوم الطبيعيــة والعلوم الاجتماعية والإنســان­يات )من مؤرخين وفلاســفة إلى قانونيين وأنثروبولو­جيين ومحللين نفســيين(. فالكلية التي أسست في 1981

لا تلزم من تدعوهم إلى العمل بهــا والذين يتغيرون سنويا ســوى بأمرين، الحضور المنتظم لوجبة جماعية يومية تدور على هامشــها حوارات حول قضايا متنوعة والمشــارك­ة الفعالة في جلسة أسبوعية للنقاش يتناوب الجميــع على تحديد موضوعها وإدارتهــا. أما فيما دون ذلك فتدعهم الكلية وشؤونهم الخاصة والمهنية، وتتركهم فيما وراء ذلك مع حيوية برلين وجنونها.

غير أن حوارات الوجبة اليوميــة )لم تتجاوز مدتها أبدا 60 دقيقة( ونقاشات الجلســة الأسبوعية )وقيدت ســلفا بتعليمات ألمانيــة صارمة بحتميــة الانتهاء منها في غضــون 120 دقيقة( التي جمعت كل المشــاركي­ن في العام الأكاديمي 2018 ـ 2019 اتســمت بدفء إنســاني وعمق فكري لم يحالفني في الماضي الحظ للاقتراب مما يماثلهما.

فمن جهة، غلبــت على كثيرين منا الرغبة في الحديث الصريح عــن تجاربهم في الحياة والعمــل والتحديات الكثيرة التــي تواجــه المبدعين والباحثــن في بيئات شــديدة الاختلاف. فهــا هو أديب مجــري - روماني لا يخجل من سرد وقائع الأزمات المعيشــية المتتالية التي عصفت بأسرته قبل أن يحقق شيئا من الشهرة وتترجم بعض أعماله إلى اللغة الإنكليزيـ­ـة، بينما تجهر روائية كينيــة بحساســيته­ا المفرطــة إزاء ماضي الاســتعلا­ء الأوروبــي علــى الشــعوب الافريقيــ­ة وبالصعوبات الشــخصية التي تحيــط بوجودها في برلــن، المدينة التي بها قســمت افريقيا إلى مناطق وزعت كغنائم على المســتعمر­ين الأوروبيين وبها أيضا بررت جرائم الإبادة الجماعية ضد بني جلدتهــا )مؤتمر برلين 1884(. وهذه باحثة تاريخ تركية عبرت عن رأيها بحرية ووضعت في 2016 توقيعها على «عريضة من أجل السلام مع الأكراد» ولوحقت لذلك قضائيا في بلادها على نحو اضطرها هي وأســرتها إلى الارتحال إلى غــرب أوروبا وفرض عليها قســوة فقدان البيئة الاجتماعية والمهنية التي لم تعرف غيرها.

بين سبتمبر/ايلول الماضي ويونيو/حزيران الجاري، توالت المصارحات الشــخصية والمهنيــة وحمل العديد منها إما نقدا جذريا لســيطرة الســوق والعوامل المالية على مجالات الإبداع الأدبي والموسيقي والفني، أو كشفا صادما لاســتمرار هيمنة الإرث الاســتعما­ري الأوروبي على الأفكار الكبرى في العلــوم الطبيعية والاجتماعي­ة والإنسانيا­ت، أو خوفا مشــروعا من المرحلة السياسية الراهنة التي تشــهد عالميا انفجــارات متكررة للحروب الأهليــة وانهيــارا­ت للــدول الوطنية وتنامــي لقوى التطرف والعنصرية والانغلاق. وعلى وقع المصارحات المتتاليــ­ة لكثيرين ومــا قوبلت به من تضامن إنســاني حقيقــي واهتمــام فكــري جاد مــن آخريــن، تبلورت تدريجيا مجموعة من القضايا التي انشغلت بها «دفعة» 2018 - 2019 مــن تحريــر الإبداع من قيــود رأس المال وإعــادة الاعتبار إلى التواريخ المرويــة )وغير المدونة( للشــعوب غير الأوروبية وتشــجيع أعمال الترجمة من اللغات الافريقية والآســيوي­ة والشــرق أوســطية إلى اللغات الأوروبية الأساســية )الإنكليزية والإســبان­ية والفرنســي­ة( إلى ســبل الدفاع عن الحريات الأكاديمية وتوفير فــرص للحيــاة الكريمة للنازحين مــن فنانين وكتاب وأكاديميين.

تدريجيا أيضــا، تبلور وجود مســتقل لدفعة 2018 ـ 2019 )مســتقل بمعنى التمايز عن الحضور المؤسســي لكلية الدراسات العليا البرلينية وبمعنى تجاوز وجودنا الفردي كمشــاركين مؤقتين بالكلية( كمجموعة تمارس التضامن بــن أعضائهــا وتوظف خبراتهــم الحياتية والمهنيــة المختلفة للتفكيــر الجماعي فــي القضايا ذات التأثير على عملهم الإبداعي والبحثي.

من جهة أخرى، ســاعد التنوع الكبير فــي خلفياتنا اللغوية والعرقية كمشــاركين في الكليــة البرلينية على اقترابنا من أحوال دنيانا المعاصرة بعقول لا تقتصر على مفردات ومضامين القــراءات الغربية، أوروبية كانت أو أمريكية.

بين سبتمبر/ايلول الماضي ويونيو/حزيران الجاري، انتخب فــي البرازيل رئيس للجمهوريــ­ة يروج لمقولات عنصريــة وخطاب كراهية ضــد مواطنيه ذوي الأصول غير البيضاء ولا يخجل من الاستخدام السياسي لأفكار اليمين الديني المتطرف. وعندما توجهنا بتساؤلاتنا إلى زميل لنا برازيلي )أســتاذ في البيولوجيا وعازف ماهر للبيانو(، شــرح لنا بعيــدا عن العنصريــة والكراهية الأسباب الأخرى لصعود جايير بولسنارو والمتمثلة في التدهور المستمر في الأوضاع الأمنية الذي دفع الأغنياء والشرائح الوسطى إلى التصويت لمرشح وعد «بتطبيق القانون وتحقيــق الأمان» وفــي الفســاد المنظم الذي تورطت به قوى اليســار منذ بدء حكم لولا دا سيلفا في 2002 وإلى أن أطيح بخليفته ديلما روسيف في 2016.

بين ســبتمبر/ايلول الماضــي ويونيو/الجاري عانت بعض البلدان الافريقية في شرق وغرب القارة من تكرر جرائم عصابات الإرهاب التي واصلت إراقة دماء الأبرياء مستغلة تارة الحروب الأهلية وانهيار مؤسسات الدولة الوطنيــة )الصومال والكونغو كمثالــن( وتارة أخرى انفجار العنــف الطائفي والديني وضعــف الحكومات )نيجيريــا نموذجا(. هنا أيضا أوضــح لنا زملاء افارقة شيئا من المســكوت عنه في الإعلام الأوروبي والأمريكي كتورط بعــض البلــدان والمصالح الغربيــة في تقديم الســاح لمجموعــات عنيفة في الماضي وصمتهــا على تحولهم لعصابــات إرهابية في الحاضــر، وكذلــك التداعيات الكارثية والمســتمر­ة إلى اليوم للسياسات الاستعماري­ة الأوروبية في القرنين التاســع عشــر والعشرين والتي خلقت دولا وطنية هشة ذات حدود مصطنعة واختزلت القارة السمراء في مورد رخيص للموارد الطبيعية.

بين سبتمبر/ايلول الماضي ويونيو/حزيران الجاري، تنامت فــي بعض بلدان أوروبا الشــرقية والوســطى ضغوط الحكومات والبرلمانا­ت المنتخبة على الســلطات القضائية )خاصة على المحاكم الدستورية(. وفي مقابل النزوع الســريع للأكاديميي­ن الأوروبيــ­ن الغربيين إلى تفســير ما يحدث في بلــدان كالمجر وبلغاريــا وبولندا بكونه هجمة ســلطوية على مؤسســات حكــم القانون وهــدم للنظــام الديمقراطي الذي تأســس فــي أعقاب انهيار الشــموليا­ت الشــيوعية في تســعينيات القرن العشــرين، أفادنا قضاة وأســاتذة قانون وعلم اجتماع وعلوم سياســية من البلدان محل النظر بأهمية البحث في تداعيات غيــاب ثقافة الديمقراطي­ة لعقود طويلة عن شرق ووسط أوروبا والاستعداد الراهن للمواطنين بعد ســنوات من الأزمات الاقتصاديـ­ـة والاجتماعي­ة لتأييد «حكم الرجال الأقوياء» وللتضحية باستقلال السلطات القضائية في ســبيل الوعد برخاء ســيأتي ومهاجرين ولاجئين سيبعدون.

مكنتني تجربــة الحياة والعمل في كلية الدراســات العليا ببرلين من الانفتاح علــى خبرات حياتية ومهنية ثرية للغاية لمبدعين وأكاديميــ­ن وباحثين، وأعادت إلى الرغبة في القراءة والســعي إلى اكتساب المعرفة بعيدا عن تخصصي في العلوم السياسية، وجددت فيما خص الأخيرة أولوية التفكير النقدي على التحليل المستند إلى مسلمات مسبقة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom