Al-Quds Al-Arabi

إيران وسيناريو الخروج من الأزمة

- *باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

مــن الذكريــات الفارقة التي يعيشــها طالــب التاريــخ فــي دراسته، وليس غريبا أن ترافقه على مرّ الأيام والســنين، أحداث اعتقدهــا البعــض عابرة لحظة وقوعها -ليس لأنها هينة، ولكن لأن طاحونة الأحداث تجعلها كذلك - لكن ثمة فصولا جديدة يشــرع التاريخ في كتابتها فور وقوع هذه الأحداث، فيتطاير هذا الانطباع بمجرد نشأته. هكذا مثلا فكّر البعض عند اغتيال دوق النمســا فرديناند في ســراييفو من دون اســتنتاج أن الحدث ستنجر عنه حرب عالمية

ليس غرض هذا المقال الدخول في سلســلة تكهنات نطبقها علــى الهجمات المرتكبة على ناقلتي نفــط نرويجية ويابانية في خليج عمان، وكذلك هجمات ســابقة، لكــن ترد في المقابل فرصة استشــراف - فالاستشــر­اف مــن أدوات التحليل - صورة جديــدة لمناطق النفــوذ في المنطقة. صــورة جديدة يرســم ملامحها اســتقراء آني للتاريخ، خاصة تاريخ النفوذ الأمريكــي الذي لم يعد يقدم للمحللين أدوات للقراءة بل أكثر: فقد تصدعت فرص للاســتنتا­ج كان من السهل الممتنع أن تقام عليها نظريــات تخلص إلى وحدة الصــف الأمريكي في دعم المغالطات.

من بــن هــذه النظريــات، الحــرب الإعلاميــ­ة أو حرب البروباغند­ا التي عرفناها في موضوع أسلحة الدمار الشامل، التــي عجلت بالهجوم الأمريكي على العراق ورئيســه صدام حســن. فلننظر هنا مثلا إلى طبيعة تفاعــل المجتمع الدولي، وإلى المســؤولي­ن الأمريكيين أنفســهم مع الســيناري­و الذي عرضه الصقر جــون بولتون عبر مجموعتــه Gatestone Institute مدعوما بصور أقمــار صناعية يقال إنها لهجمات نفذتهــا إيران فعــا. أول ما يمكــن ملاحظته، جــو الحيطة والحذر الذي اكتنف تحميل ترامب إيران مسؤولية الهجمات، استنادا إلى معطيات صادرة عن أمانة الدولة ‪the state of(‬ secretary) مبنية أساســا على مزاعم بولتون. هنا، تتالت التحفظات بدءا بالجهاز الاســتخبا­راتي الأمريكي، مرورا، في الوقت نفسه، بالتقاســم الأوروبي بين صوت بريطاني انضم إلى أصــوات المتهمين، وإعــراب ألماني واضح عن التشــكيك في صدقيــة الفيديوهــ­ات الأمريكية، انتهــاء بتصريح لافت لأمين عــام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريــش، تصريح مؤثر شــكلا أكثر منه محتوى، لعدم حدوث سعي دبلوماسي رفيع المســتوى، إلى التذكير بــأن التحقيق في الحــادث ليس من صلاحياتــه هو، بل من صلاحيات مجلس أمــن المنظمة الذي يشرف على أمانته.

خاب توقع أمريكا بـ»انهيار إيران في غضون ثلاثة أشــهر جراء «الإرهاب الاقتصادي» الذي حاولت أن تمارسه عبر منع تصدير منتجاتها النفطية، وإلغاء حزمة امتيازات كانت تتمتع بها في هذا المجال. لكن في المقابل، لم يخب أمل المجتمع الدولي بالنشاط في الحقل الدبلوماسـ­ـي لرسم ملامح خطة معاكسة لتلك الأمريكية الغارقة في ثوابتها، التي أظهرت التجربة أنها محكومة بالاهتزاز. ليست المساعي الدولية التي نجدها حالياً محصورة في منع الأزمة في المنطقة من التصعيد، فهي مســاع عضوية تنبني على نقاط إســتراتيج­ية لا يمكن تفاديها، مثل توقي تهديد بإغــاق مضيق هرمز، العصب الحيوي الذي يمر منه أكثر من ثلث صادرات النفط الدولي.

من هنــا لا بد من جهــود حثيثة لضبط ما يمكن تســميته بـ»طريق دبلوماســي­ة ثالثة» جديرة بأن تؤتــي أكلها إذا ما تبلورت. صحيــح أن زيارة رئيس الوزراء الياباني شــينزو أبي إلى طهران، وتلك التي قام بهــا وزير الخارجية الإيراني جــواد ظريف إلــى الصــن، كانتــا منخرطتين أساســا في اســتراتيج­ية قصيرة المدى لتفادي نــزاع، خاصة أن إحدى الناقلتين المســتهدف­تين يابانية. لكن بالإمكان تنزيل «حدثية» التحرك الدبلوماسي هذا في مستوى أعلى في سلم الخطوات الدبلوماسـ­ـية المركزة، بحيث يصبح التحــرك الصيني مثلا عنصر دبلوماســي­ة بديلة خليقــة بالتأثير في إعادة رســم الخرائط في المنطقة.

ليس العصب الاقتصــاد­ى الحيوي الذي تشــكله منطقة خليج عمان المحفز الوحيد لتحرك مجتمع دولي، بات واضحا تأثيره على صوت أمريكي آخذ في الخفوت. ثمة طريق ممكنة، وإن لم تكن معبدة، تستشــعرها أطراف دبلوماســي­ة بديلة تمكنها من تحقيق اختراق على المدى البعيد، بدءا بإعادة بث الثقة فــي علاقتها بالطرف الإيراني لينتقــل الأخير من موقع الطرف إلى مرتبة الشريك.

والســؤال الذي يطرح بالتالي أيضا هو طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه دول الاتحاد الأوروبي، وهي التي رتبت لتفعيل الاتفاق النووي بتفان. ذكرنا التحفظ الألماني من الفيديوهات التي سوقها بولتون، لكن ماذا عن فرنسا التي تنشط طائراتها وسفنها وراداراتها في قاعدة عسكرية متموقعة في أبوظبي؟ أليست تلك المعدات جديرة بمساعداتها في تقديم تشخيص لما حدث، فتعلن نتائجه أمام المــأ ليبلغ علمنا هل إيران ضليعة في تلك الهجمات أم لا؟

في مقابل قولة بولتون «ولا )نريد( حتى جهاز طرد مركزي واحد»، في وجه كلام ترامب عن «هجمات هي فعلا من توقيع إيران»، كلام يصطدم نفسه بتحذير شديد اللهحة من القيادة العسكرية الأمريكية من مغبة الوقوع في «فخ أفغاني جديد»، فــي مقابل هذه التصريحــا­ت التصعيدية، يســتنكر المجتمع الدولي انخفاض عــدد البراميل التي تمر عبــر مضيق هرمز من المليون إلى ســبعمئة برميل، كما يندد بالحصار المفروض على إيران الذي وصفه سفير فرنسا السابق فرانسوا نيكولو بـ»الأقسى حتى من حصار الحرب الإيرانية العراقية»، فضلا عــن تقويض القيمة المضافة الســخية التي يمكــن أن يقدمها الانتــاج البتروكيمـ­ـاوي فــي المنطقة. من هذا التشــخيص، تشــخيص المجتمع الدولي، نتلمس أبوابــا مفتوحة في وجه مقاربة قابلة للتحقيق قصد خروج من الأزمة يذهب في اتجاه تثبيــت التطور الحاصل فــي العلاقات بين إيــران والمجتمع الدولــي بعد ابرام الاتفــاق النووي ســنة 2015. لكن، ومرة أخرى، الأيام بيننا.

لم يخب أمل المجتمع الدولي بالنشاط دبلوماسيا لرسم ملامح خطة معاكسة لتلك الأمريكية التي أظهرت التجربة أنها محكومة بالاهتزاز

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom