Al-Quds Al-Arabi

صين الحرية تفضح صين الاستبداد

-

■ عندمــا تتســلّط أنظمــة القهــر والعســف والخوف، لا تجد الشــعوب مناصا من التظاهــر بالقبول والرضا. فيكون الموقف العام هو التسليم بالأمر الواقع إيثارا الســامة. وعادة ما تتخلــل الموقف العام الصامت مواقف صائتــة أو صاخبة تتمثــل في التغنّــي بمناقب الحاكم والتهليل لكل ما يصدر عنه من قول أو عمل. وليس الخوف بدافع لهذه المواقف، وإنمــا الطمع. إذ يكفي في حالة الخوف «الســير لصــق الحيطــان »، وعدم الخوض في السياســة، والانشــغا­ل بشــؤون العائلة والعكوف علــى كرة القدم أخبــارا وتعليقات ومباريــات وإعادة بث. أما فــي حالة الطمع فلا بد من الســعي والاجتهــا­د، ولا بد من إعمال الخيال في مجــال التزلف والنفاق والرياء وإظهــار آيات التبعية والولاء، مع مــا يتضمنه ذلك من احتمالات الغلوّ فــي المديح والتطبيل والتدجيــل الذي قد يبلغ حد البوح الرومانســ­ي )مثلما فعلت ممثلات مصريات في 2013 و2014( بالحب العذري للدكتاتور. وقد اســتثمر الكاتب المصري الفرنكوفون­ي الراحل ألبير قصيري أبعاد الســخف والإســفاف والعبثية في هذه الظاهرة الانتهازية الملازمة لأنظمة الاســتبدا­د اســتثمارا فنيا ماكرا في روايته الفلســفية «العنف والسخرية» التي أذكر أن أمجــد ناصر رحمه الله قد كتــب عنها في «القدس العربي» في التسعينيات والتي لا تزال نسيج وحدها بما تفردت به من براعــة التخييل «التخريبي» الهازئ بســلطة المتســلّط ومن طرافة التصوير الكاريكاتو­ري العابث بعبثية الاســتبدا­د، حيث أنه ليس لهذه الرواية المصرية الســاخرة ما يشبهها حتى في الجنس المعــروف فــي الأدب الأمريكي اللاتينــي بـ«رواية الدكتاتور». هذا هو الوضع العام الذي لا يكاد يوجد له استثناء: طالما أن الأنظمة قائمة على البأس والقهر والخوف، فإن الشعوب تقابلها بالمسايرة والمهادنة والتظاهر بالقبول والتأييد. لكن ما أن تتاح للشعوب فرصة النجاة حتى تفرّ إلى النجاة وتختار الحرية والعدالــة. هذا ما يقــرّه المنطق وهذا ما أثبتــه التاريخ الحديث والمعاصر مرارا وتكرارا.

المفتــرض أن هــذه بديهيــات. إلا أن غرائــب التشــكيك في البديهيات والكفر بالبيّنات قد تكاثرت منذ بضع ســنين. لسببين. أوّلهما الردّة ضد الثورات الشعبية في البلاد العربية، بتحريض وتمويل من الطغاة العــرب الخائفين على كراســيهم وثرواتهم وبدعم مــن القوى الإقليميــ­ة والدولية التــي لا مصلحة لها في أن تتجذر الديمقراطي­ــات وتزدهر الحريات عندنا. أما الســبب الثاني فهــو أن ما أفرزته العولمة من خلخلة في البنى الاقتصادية وهشاشة في الأوضاع الاجتماعية قد أدى إلى أن تظهر في بعض البلدان الغربية أنظمة حكم شعبوية وفاشية سرعان ما تبين أنها حليف موضوعي للدكتاتوري­ات العريقة. كل ذلك جعل البديهيات تصير محل جدال، بل إنها صارت موضع نكران وجحود بالنسبة لمن يعتبرون، عندنا نحن العرب والمسلمين، أن الثورات الشعبية مجرد مؤامرة أجنبية ولمن يعتبرون، عند ســوانا، أن الليبرالية السياسية مكيدة دبرها الاتحاد الأوروبي لتكون منفذا للهمج من المهاجرين واللاجئين المصممين على تلويث روح الأمة ذات الجذور المســيحية والميراث الإغريقي-الروماني. ومما زاد في البلبلة أن الدكتاتوري­ات العريقة، خصوصا في روسيا والصين، قد انتقلت في الســنوات الأخيرة من الدفــاع إلى الهجــوم فصارت تروج للاســتبدا­د باعتباره النمــوذج الأمثل للحكم وتنشــر الأباطيل على شــبكات التواصل بغرض التأثير في نتائج الانتخابات في الديمقراطي­ات الغربية.

إلا أن الأزمــة الناجمة عــن الجائحة قد أتــت بالدليل على أن الديمقراطي­ــات الليبرالية، على شــدة نقائصها وأخطائها وعلى كثرة مداولاتها وبطء قراراتها، هي أفضل في التصدي للمشكلات ومخاطبة الجمهور وتجســيم الإرادة الوطنية وتحقيق الصالح العام من أنظمة الاستبداد الفردي في روسيا والحزبي في الصين، أو أنظمة الحكم الشعبوي في أمريكا والبرازيل والمجر.

ومن أعجب المفارقات أن الحكم الاســتبدا­دي في بكين قد أتى، رغما عنــه، بأقوى دليل على أن الشــعوب تفضــل الحرية على الاســتبدا­د. وإلا ففيم استماتة الشــعب الصيني في هونغ كونغ في التشــبث بآخر مــا تبقى من الحريات في وجــه هجمة الردع والترهيب التي تشنها بكين بذريعة قانون الأمن؟

وإذا كانت دكتاتورية الحزب الشــيوعي محبّبة إلى هذا الحد، فلماذا يعض الشعب الصيني في تايوان على نظامه الديمقراطي بالنواجذ ويرفض رفضا قاطعا العودة إلى جنة الوطن الأم؟

هكذا فضحت صين الحرية في الجزيرتين صين الاســتبدا­د في القارة. فتخيل لو أن شــعب المليار والنصف أتيحت له هو أيضا، مثل شقيقيه، فرصة تذوق تلك الثمرة التي يخافها نظام بكين.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom