Al-Quds Al-Arabi

ذاكرة ترحال أدبية: يعقوب الشدراوي حياة للمسرح وعلى خشبة المسرح

- يمنى العيد

«كيفك يمنى؟»، يسألني كلما التقيته صدفة في شارع الحمرا. مسحة من حزن دفين في عينيه، وظلال أسى على وجهه. ربما بسبب ما آل إليه حال هذا الشارع والمقاهي التي كانت ملتقى المثقفين في بيروت. وربما بسبب توقفه عن العمل المسرحي!

ربما أقول... وأعود بذاكرتي إلى الوراء، إلى ذاك الزمن، زمن مقاهي بيروت الشهيرة، مقهى الوينبي، الذي منه أطلق المقاوم خالد الرصاصة الأولى على الجندي الإسرائيلي المحتل )أيلول/سبتمبر 1982(. كان ذلك بعد مجزرة صبرا وشاتيلا وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت. ولكن وبدل أن يبقى هذا المقهى العريق معلما تُرفع على بابه صورة المقاوم الشهيد خالد، صار محلاً لبيع الأحذية.

ربما أقــول... هو هذا سبب الحزن الدفين في عينيه. وربما هي تلك الرصاصة التي أودتْ بحياة أبيه باكراً )1958(، فاستقر الحزن في قلبه وطفحتْ به عيناه.

عزيزان فقدهما يعقوب: والده طنوس الشدراوي الذي كان صديقا وسندا له في هذه الحياة، والمسرح الذي راح يخبو في بيروت، وكان قد جعل من خشبته، بقليل من التكنولوجي­ا، و«بكثير من الحرفة والخيال، كهفاً وسماء وحديقة».

خبا المسرح، وصمت الشدراوي، بعد أن قدَّم عام 1991 آخر مسرحياته «بلا لعب يا ولاد»، وبعد أن تراجع مموِّل مشروعه لتقديم مسرحية «الخال فانيا» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف.

«كيفك يمـنـى؟». أسمعه يسألني، وأراه ينظر خلفه حيث مسرح البيكادللي المغلق. ينظر وفي عينيه غصّة، ربما هي بسبب فشل مسعاه لوجود مسرح عام يشرِّع خشبته لكل الفنانين في لبنان. مسعاه الذي انتهى به بعد ربع قرن من العطاء المتواصل، الغزير والمتنوّع فنيّا، إلى أن يعلن: «لقد دخلنا زمن الهبوط والانحطاط على كل المستويات.. المسرح أول الضحايا».. لا بسبب الحرب فقط، بل هي «المـدارس الحديثة التي كشفت العجز..» عجز وزارة الثقافة اللبنانيّة، عن تمويل المسرح بالمال من أجل ديمومته.

لقائي الأول مع يعقوب الشدراوي كان، كما أذكر، في العام 1970، بعد عودته من موسكو، وبمناسبة تقديمه أولى مسرحياته «إعرب ما يلي» على خشبة مسرح بعلبك في شارع القنطاري في بيروت. المسرحية عبارة عن نصوص شعريّة لأدونيس وأنسي الحاج ومحمود درويش، مع مقتطفات من نصوص نثريّة لجورج شحادة وسعد الله ونوس.

حمل الشدراوي الأدب إلى المسرح، ساعياً، في الآن نفسه، إلى «مسرح وطني يجمع الجموع، ويفعّل الحركة المسرحيّة والثقافيّة». ولقد نجح، إذ استمر عرض مسرحيته «إعرب ما يلي» لأيام عديدة، وكان الإقبال لا يوصف، وكتبتْ الصحافة تخصّه بالتقييم والثناء، وكتب فارس يواكيم يقول بفخر واعتزاز: «اليوم ولد المسرح اللبناني». الشدراوي الذي شعر بما يرتّبه هذا المديح عليه من مسؤوليّة، بادر يقول: «إنه حكم بالإعدام». وكأنه يسأل: ماذا بعد كّل ما بذلت؟ ماذا، وكيف يمكنني أن أعطي أفضل مما أعطيت؟ ربما عليَّ أن أنحو منحى الاختلاف!

كنت من هواة المسرح، أفضِّل حضور العروض المسرحيّة ومشاهدة التمثيل الحي على مشاهدة الأفلام السينمائيّة.

ولا أبالغ إذا قلت بأني حضرت معظم، إن لم يكن كل ما كان يعرض من مسرحيّات في مسارح بيروت. أذكر: مسرح البيكاديلّلي، مسرح بعلبك، مسرح المدينة، مسرح بيروت... إضافة إلى ما كان يُعرض في قلعة بعلبك وغابة الأرز وكازينو لبنان. هكذا جئت من صيدا لحضور مسرحيّة «إعرب ما يلي»، وهكذا انتظرت طويلا، بعد إسدال الستارة، ليعرِّفني الصديق محمد دكروب برفيقه اليساري يعقوب الشدراوي.

في هذا اللقاء الأول مع يعقوب، فاجأني وجود رضى خوري معه، رضى صديقتي في مدرسة راهبات العائلة المقدسة في بيروت، أيام الدراسة الثانويّة. ـ رضى حبيبتي.. كيف أنت هنا! ـ سمعتُ يعقوب، ونحن في الكواليس، يذكر اسمكِ )كنت ما زلت وقتها

أعرَف بإسمي الحقيقي(، فقلت له: هذه صديقتي، أذهب معك لرؤيتها. ــ ولكن أنتِ، كما أعلم، من مدرسة منير أبو دبس، كيف! ـ كيف تمثل مع يعقوب؟ سأل محمد مستغربا، ضاحكا. ـ نعم. قلت. ـ أنا فقط أؤدي دوراً في هذه المسرحيّة. قالت رضى. نحن نتعاون. أليس كذلك يا يعقوب؟ منير معجب بكَ، ويقول بأنكَ ارتدت «مدرسة المسرح الحديث» باكرا، قبل سفرك إلى موسكو. بقي يعقوب صامتاً. فقال محمد: ـ صحيح.. لكن منير يعتبر مدرسة المسرح الحديث «مدرسته». «إعرب ما يلي»، مسرحيّة يعقوب، ليست مجرد إثراء لمدرسة المسرح الحديث، بل إنَّ المسرح الحديث هو أيضا مدرسة يعقوب، ولكن بفارق هو في معنى الحداثة. تبتسم رضى ثم تقول وهي تقف لتودعنا: للبحث صلة. اليوم وأنا أستعيد هذه الذكريات، أدركُ أنَّ يعقوب كان قليل الكلام، لذا لم يقل لنا، وقتها، بأنّه أضاف للمسرح الحديث، وشارك في نشأته، وأنَّ ما كان يسعى إليه ليس الحداثة بمعناها التقني، بل هو إقامة «مسرح وطني، يجمع الجموع ويفعِّل الحركة الثقافية». فالمسرح، كما كان يقول، ليس للنخبة، لقد «وجد للناس، ولا يمكن أن يكون غير ذلك». هكذا لم يكن ما أعطاه بعد مسرحية «إعرب ما يلي»، بهدف التجاوز وحسب، بل أيضا من أجل تنوّع الفضاءات الثقافيّة واتساعها، وعلى أساس توجهها وفاعليّتها في الوعي الجمعي العام.

تعددت لقاءاتي مع يعقوب بعد حضوري مسرحيّته «إعرب ما يلي». كنت أواظــب على حضور عروضه المسرحيّة في بيرت، أذكــر منها: «سمك السلّور» ،1971 «الأمير الأحمر» ،1973 «المهرج» ،1974 «أبو علي الأسمراني» ،1974 «جبران والقاعدة» 1981 التي مثّل فيها صديقه حسن حمدان )مهدي عامل( دورَ المطران، «الطرطور» ،1983 «نزهة ريفية غير مرخّص بها» وهي ملحمة عاميّة انطلياس، وقد مثل فيها، أيضاً، حسن حمدان دور القيادي الذي يُغتال.

آتي إلى بيروت من صيدا، أقود سيارتي السوبارو البيضاء، الطريق واحد للذهاب والإيـاب، يوازي شاطئ البحر، تؤنسني أصداء أمواجه في تراجعها عن رماله السمراء، وأنعم بنسيم يحمل برودة الماء، ورائحة زرقاء تنعش صدري.

غالبا ما كنا نلتقيه بعد العرض، أو في أوقـات أخـرى، وقد غدوت وزوجي من الأصدقاء. نلتقيه في مقهى البيكاديلّلي أو الوينبي )وكلاهما

لم يعد له أثر(، وأحياناً في مبنى مجلة «الطريق»، وغالبا بصحبة الصديق محمد دكروب إضافة إلى نزار مروة ومهدي عامل وإلياس وحياة شاكر.

أعود بذاكرتي إلى ذلك اليوم الذي مثَّل فيه يعقوب، بمفرده، إحدى مسرحياته )ربما كانت «مذكرات مجنون» للروائي الروسي نيقولاي غوغول( على خشبة مسرح الثانوية التي كنت مديرتها.

ـ أجدتَ يا يعقوب. يقول له مهدي عامل بعد انتهاء أدائه للمسرحية، واجتماعنا به في غرفة الإدارة.

ـ نعم لقد أجـاد، أؤكـد، ونحن في الثانويّة نفتخر به ونشكره على مساهمته المميّزة، في نشاطاتنا الثقافيّة التي نتوخى بها تحرير الوعي، الأنثوي بشكل خاص، من قيوده البالية، وتنويره بحقوقه في هذه الحياة.

أصمت. فيسألني أحد الحضور عن هذه النشاطات الثقافيّة، ربما بهدف تعريف يعقوب بها.

ـ محاضرات ندعو إليها مفكرين وأدباء وأطباء، مسرح، رسم، موسيقى، رحلات لاكتشاف أسرار الطبيعة من طيور وحشرات... ـ مستعد للمساعدة فيما يخص التمثيل. يقول يعقوب بصوته الهادئ. ـ مـا هـو مــدى تـأثـرك بالمسرحيين الـسـوفـيـ­ات، وبشكل خـاصّ ستانسلافسك­ي؟ تسأله معلمة التمثيل في الثانويّة.

ـ لقد سعيت، في عملي المسرحي، إلى التغيير القائم في وجهة النظر التي منها يتمُّ الإخراج. لذا تخصّصت في التمثيل والإخراج وليس في الكتابة. إخراج النصّ يكون حسب رؤية المخرج التشكيلية وبشكل خاّص، حسب موقفه الفكري/الحياتي من الواقع، ومن العلاقات فيه. أن نتأثر لا يعني أننا نقلِّد. المهم هو وجهة النظر والإخراج، إذ بهما نمارسُ التغيير.

أدرك اليوم أنه بهدف التغيير، ومن منطلق إدراكه أهميّة وجهة النظر والاخراج، عمل يعقوب على اختيار ومسْرحة، أو إعادة مسرحة، العديد من النصوص العربيّة. فمسرحيّة «الطرطور» مثلا، التي قدمها أيام الحصار الإسرائيلي لبيروت، هي إعادة مسرحة لمسرحيّة «الفرافير» )نص يوسف إدريس، وإخراج كرم مطاوع(، وذلك بإعادة بناء حبكتها بناءً مركباً يقع «بين ستانسلافسك­ي والواقعيّة الاشتراكيّة والاحتفالي­ة العربية». لم يكن يعقوب، كما يرى البعض، «بعيداً عن بريخت، ولكنه لم يكن بريختياً كما جلال خوري». هكذا توخى في مسرحية « الطرطور» بناء حبكة تتسم بالسخريّة وتتسق، في الآن نفسه، مع ما ترمز إليه شخصيّة طرطور لبنانيّا. «كيفك يمنى؟». ما زال صدى صوته يرنّ في أذني. ما زالت صورته، التي التفّتْ بالحزن، حاضرة في مخيلتي. ما زلتُ أسمعه يقول: «إننا دخلنا زمن الهبوط والانحطاط على كل المستويات، ولا بد أن يكون المسرح أول الضحايا».

رحل يعقوب الشدراوي وفي نفسه غصة لعدم إقامة مسرح وطني «يجمع الجموع ويفعِّل الحركة المسرحيّة والثقافيّة».

رحل من كانت حياته على المسرح، وللمسرح، انتصاراً على الموت.

ـ يعقوب والعربي. ـ ولد في زغرتا وعاش في بيروت. ـ عشق المسرح، ومارس التمثيل في طفولته على مسارح المدارس. ـ 1962 سافر إلى الاتحاد السوفياتي لدراسة المسرح. - 1968عــاد إلى بيروت ساعيا إلى مسرح عام يشرّع خشبته لكل الفنانين اللبنانيين. ـ أبدع في الإخراج والتمثيل، ولقب بـ «شيخ المخرجين». ـ لمع في التمثيل على الشاشة الصغيرة )تلفزيون لبنان(. ـ علَّم المسرح في «معهد الفنون الجميلة» في بيروت. ـ حمل الأدب، من أكثر من بلد عربي، إلى المسرح، كما كتب وعرّب ومسْرَح أعمالا من لغات عديدة. ـ قدم أعماله على مسارح لبنانية متعددة، وفي أكثر من بلد عربي. ـ اعتزل المسرح عام 1991، وقد اعتراه اليأس وغاب عن الأضواء، ليرحل بعد معاناة طويلة مع المرض. الـشـدراوي )1934

ــ 2013(: أحد

أعمدة المسرح اللبناني

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom