Al-Quds Al-Arabi

اللبنانيون تائهون بعد ضياع «سويسرا الشرق» ولا مفرّ!

- بيروت ـ «القدس العربي»: رلى موفّق

في شـارع الحمراء البيروتي، الــذي كــان يـومـاً وردة على تاج الـعـاصـمـ­ة الــتــي لُـقـبـت طـويـاً بـ«سويسرا الشرق» استُنحرت «هــويــة لـبـنـان» الحـــر، السيد، المــســتـ­ـقــل، وُأريـــــق دم نظامه الاقـــتــ­ـصـــادي، وسـقـطـت قيمه الأخلاقية والثقافية جثة هامدة، وُأزهـــقـــ­ت روح فــكــرة «الــوطــن الرسالة».

يحدث ذلــك كله على رصيف الحـــمـــ­راء، الحــــيّ الــــذي يُــــودّع ارستقراطيت­ه مع أحزمة البؤس الـتـي زنّـــرت بــيــروت، وشـوّهـت صورتها كحاضنة حضارية لروح تساكنت فيها الــثــورة والـثـروة في المقاهي التي سطرت من على طاولاتـها فتوحات الحداثة وما بعد الحـــــدا­ثـة، وروائــــع الأدب والتجديد.

لـم يعد لبنان كما كــان، بدت بيروت وكأنها تموت، أما شارعها الذي لم يغادر الذاكرة الجميلة، فها هو شاهد على «الوطن الشهيد» الــذي يُقتاد في الـذكـرى المئوية الأولــى لـولادتـه إلـى الانتحار... تماماً كما حدث يوم الجمعة الثالث من تموز/يوليو على الكرسي في أحد مقاهي الأرصفة.

قبل ظهر هـذا اليوم المشؤوم، شقّ رجل في عز شبابه طريقه إلى مقهى «الدانكن دوناتس» على أحد أرصفة الحمراء، ارتشف ما تيسّر من مرارات الدهر، وضع على حافة المكان والعمر وثيقة مدنية تُثبت أن «لا حكم عليه» وكتب عليها بالخط العريض «أنا مش كافر بس الجوع كافر» وألصقها على علم لبنان، المنكّس.

بـرصـاصـة مـحـشـوّة باليأس والـــبـــ­ؤس أنــهــى الـــرجـــ­ل، الأب لابنتين، حياته وهو يصرخ «لبنان حر، سيّد، مستقل» وكأنه يرمي بوصيته، مـع دمــه المتناثر، في وجـه الآخـريـن، بــدءاً من السلطة وحزبها الحاكم المتمثل بـ«حزب الله» مروراً بالزعامات التي جعلت من الناس حطباً لنفوذها، ووصولاً

إلى الناس التي لم تغادر ترددها.

ثمّة «أبــو عـزيـزي» وأكثر في لبنان، فعلى بعد نحو 40 كيلومتراً من بـيـروت، التي فركت عينيها على دم الشاب الذي قتلته سلطة التجويع، كانت حياة رجـل آخر تتدلى من على المشنقة في بلدة جـدرا الساحلية )جنوباً( بعدما قـرر يائس آخــر، سُــدّت الأبــواب في وجهه، نصب نهاية مأسوية لحكايا الجوع والعوز.

فلم تعد صور الثلاجات الخاوية، أو الـكـام عـن البطون الخاوية النائمة على جوع، مجرّد سرديات فردية أو ظواهر موضعية... نعم إنه حال لبنان وشعبه، صدّق أو لا تُصدّق، والآتي أعظم مع الذكريات الــســود لمجــاعــة 1915 ـ ،1918 العائدة بقوة إلى البلاد التي كانت تُفاخر قبل أعوام قليلة بريادتها، في الاقتصاد والمــال والسياسة والسياحة والطب والأدب وكل ميادين الحياة.

كأنها «محرقة معيشية» ما يزيد عن نصف اللبنانيين سقطوا ما دون خط الفقر، البطالة تحلّق بمستويات لم تعرفها البلاد منذ

أكثر من مئة عـام، الــدولار سحق الليرة التي خسرت 80 في المئة من قيمتها، الأسعار في صعود جنوني، وبلا سقف، والحد الأدنى للأجور انكمش إلى ما دون الـ100 دولار.

كل هـذه الكوابيس والفواجع والمــآســ­ي تـتـدحـرج تحــت أنظار سلطة لم يرفّ لها جفن، يُديرها من الخلف «حزب الله» على وقع مشروعه الإقليمي ـ الاستراتيج­ي، وتـلـهـو أطــرافــه­ــا الأخــــرى، إمـا بــ«حـصـر إرث» الخــســائ­ــر، أو بتصفية الحسابات السياسية بين أطرافها وضد خصومها.

بين ليلة وضحاها.. طار كل شيء

وبعد... اللبنانيون في ضياع. فـــجـــأة وجــــــدو­ا أنــفــســ­هــم في القعر، عاجزين عن فهم نكبتهم. يتساءلون: كيف انهار كل شيء مـن حولهم بـن ليلة وضحاها، وانقلبت حياتهم رأساً على عقب؟ كُثر منهم أضحوا بلا مورد، بعدما باتوا عاطلين عن العمل. أُقفلت مؤسساتهم، ومَن لم يُقفل اليوم،

سيفعل ذلك غداً، ما يعني انعدام فـرص العمل في الـبـاد، ومعها انعدام الأمل في الغد.

مــا عـــاد الحــديــث الــيــوم عن الشباب. هؤلاء قد يجدون طريقاً إلـــى بـــاد الـلـه الــواســع­ــة لبناء مستقبل ما، فما زالــوا في بداية المشوار، لديهم روح المغامرة، وهم قـادرون على النهوض إن أخفقوا مرة أو اثنتين على درب التجارب. ولكن أي مصير ينتظر أولئك الذين تخطوا منتصف الـعـمـر، كعلي محمد الهق 61) سنة( وغيرهم ممـن ظـنـوا أنـهـم أسـسـوا عائلة ومهنة ومستقبل، فإذا بهم عالقون في نفق مظلم لا يدرون إن كانت له نهاية، أو كان ثمة ضوء في آخره. تبدّلت أحوالهم، وانتهى زمن اليسر والأحــام بعيش رغيد والطموح إلــى حـيـاة الــرفــاه، ليحل محله زمن الإجابات الصعبة عن أسئلة العوز والضيق واليأس والإحباط. يعيشون قلقاً لم يشهدوا له مثيلاً حتى في عزّ الحرب الأهلية.

التقديرات تصل إلى أن نهاية العام 2020 ستقفل على نصف مليون عاطل عن العمل في لبنان.

ولا يقتصر الأمـر على قطاع دون غــيــره، غـيـر أن الـصـدمـة تطال الـقـطـاعـ­ات الـتـربـوي­ـة، حيث إن الجامعات تجد نفسها مضطرة إلــى تقليص طواقهما الإداريـــ­ة والتعليمية، وكذلك المـدارس التي سيُقفل بعضها أبوابه نظراً لعدم قدرة الأهالي على سداد الأقساط، حتى ولو قُدّمت لهم التسهيلات.

انـسـدّت الأبـــواب، فكان لا بد من فتح نافذة صغيرة علّ النور يــتــســرَّب مــن خــالــهــ­ا. وَجـــدت الــدعــوا­ت للتوجّه نحو الـزراعـة اسـتـجـابـ­ة مــن الــنــاس. شهدت القرى زحمة وافـديـن من المـدن، زاد منها وباء «كورونا» وما نتج عنه من إغــاق. نشطت الزراعة، وكثير منها لهواة، فشكّلت متنفساً أعطى جرعة فرح وأمل في الوقت المستقطع، لكنه سرعان ما سيظهر أنه هروب إلى حلم مفقود.

فلا الزراعة للهواة والمبتدئين قـــادرة أن تحـل محل الوظائف الــتــي فُـــقـــدت، والأعـــمـ­ــال التي توقفت، والمحال التي أُقفلت، فيما المــزارعـ­ـون الأصيلون يـأنّـون من تضرر مواسمهم الزراعية بفعل عوامل الطبيعة وغــاء المبيدات الزراعية، فيما تعلو الأسئلة عن أسـبـاب ارتـفـاع أسـعـار الخضار والفاكهة ما دامت إنتاجاً لبنانياً. فالفوضى دبّــت فـي كـل شـيء، فــي ظــل عـجـز أجــهــزة الـرقـابـة وحماية المستهلك ووزارة الزراعة عن ضبط السوق والأسـعـار من جشع التجار، فيما منسوب القيم الأخـاقـيـ­ة منخفض إلــى أدنــى درجاته مع طغيان ثقافة «اللي معو ليرة بيسوى ليرة» وغياب مفاهيم التكاتف الاجتماعي.

حتى أولئك الذين أفنوا العمر في الشقاء لقضاء سنوات تقاعد هـانـئـة، احـتـجـزت أمـوالـهـم في البنوك. يحصلون عليها بالقطّارة، حيث تُحدِّد لهم سقف سحوباتهم الأسبوعية والشهرية. و«الكابيتال كونترول» غير الُمشرعَن، ينطبق على الميسورين وأصحاب رؤوس الأمــــوا­ل الــذيــن أغـوتـهـم فـوائـد المـصـارف المرتفعة، فاستثمروا فـيـهـا بـــدل أن يـسـتـثـمـ­روا في مشاريع مُنتجة، وباتوا اليوم في مهب حرب نفسية عن اقتطاعات

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom